الرأي

من أحمد بومنجل.. إلى مدّلسي

المسؤولون الجزائريون في علاقتهم بثوابت الشعب الجزائري أزواج ثلاثة، فمنهم من هو جزائري كامل في جزائريته، ومنهم من هو نصف جزائري، ومنهم من هو ثلث جزائري، فمن آمن بثوابت الشعب الجزائري من دين إسلامي، ولسان عربي، وأصل أمازيغي – وليس أمازيقي كما يقول المجاهد الأمازيغي الحاج الأخضر – فهو جزائري كامل، ومن آمن بثابتين فهو نصف جزائري، ومن آمن بثابت واحد فهو ثلث جزائري، ومن لم يؤمن بأي ثابت فهو »حيوان» جزائري، يأكل من خيرات الجزائر، ويتمتع بنعمها، »ياكل الغلة، ويسب الملة»، وهو في ذلك كـ »الأقدام السوداء«…

لاشك في أن هذا العنوان سيلفت الأذهان، وسيتساءل الجزائريون – خاصة الشبان منهم- عن سر الجمع بين هذين الإسمين، أحمد بومنجل – رحمه الله- ومدّلسي، الذي ما يزال »يأكل الطعام ولا يمشي في الأسواق(*). «

إن أبناء هذا الجيل يسمعون عن مدّلسي، فقد شاءت الأقدار أن يكون »وزيرهم« للخارجية، وهم يعرفون شكله، ولونه، وأناقته، لأنهم يرونه في شاشات التلفزة، وعلى صفحات الجرائد والمجلات، ويعلمون أن خصيصته التي يتميز بها هي إصراره على انتهاك الدستور الجزائري باستعماله اللغة الأجنبية في المواطن التي »يَحرم« فيها استعمال غير اللغة العربية، اللغة الوطنية والرسمية، كأنه يخشى أن يموت بعدم استعمال لغة فرنسا..

وأما أحمد بومنجل – رحمه الله – فهو مجهول عند أبنائنا، لأن »إرادة« ما قررت أن تغرقهم في »ثقافة« الراي، وسفاهة الراي، ورذالة الراي، وأن لا يعرفوا الرجال، وأن لا يتعلقوا إلا بكل من هو »قُلّ ابن قُل(**)«..

إن أحمد بومنجل – رحمه الله- مناضل كبير في سبيل قضية وطنه. ولد في 1906 في منطقة بني ينّي (جرجرة)، تخرج في كلية الحقوق بجامعة السوربون، فدافع عن المناضلين الجزائريين الذين أذاقتهم فرنسا العذاب الرهيب الذي يشيب الغراب في سجونها، على أيدي مجرميها.

انخرط في »حزب نجم شمال إفريقيا»، وفي »حزب الشعب الجزائري»، وساهم في إعداد وتحرير »بيان الشعب الجزائري»، وكان من مُسيري حركة »أحباب البيان والحرية».

انسحب أحمد بومنجل من »حزب الشعب الجزائري»، وانضم إلى حزب “الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري”، الذي أسسه الزعيم فرحات عباس، وتولى أمانته العامة.

بعد إعلان الجهاد في 1 نوفمبر 1954 انضم إليه، وعمل في فيديرالية جبهة التحرير في فرنسا، ثم عين عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وشارك في محادثات مُولان ومفاوضات إيفيان..

وبعد استرجاع «الاستقلال» عين وزيرا للأشغال العمومية، وقد توفاه الله في سنة 1984 (1).

لقد تذكرت المناضل الكبير والوطني الأصيل أحمد بومنجل وأنا أتابع »معالي مدّلسي» – الذي يُفترض فيه أنه يمثل الجزائر في الخارج – وهو يخطب بغير لسان وطنه وشعبه، وفي عاصمة عدوه، فيما سمي مؤتمر أصدقاء سوريا.

لو كان مدّلسي لا يعرف اللغة العربية لا لتمسنا له عذرا في تحدثه باللغة الفرنسية، ولكننا نعلم أنه يستطيع أن يقرأ ما يُكتب له باللغة العربية..

إنه لا تعليل لإصرار مدّلسي على استعمال اللغة الفرنسية (أمام البرلمان الأوربي، وأمام البرلمان الفرنسي، وفي مؤتمر أصدقاء سوريا بتونس.. و .. و..) إلا أنه يستنكف أن يتحدث بلغة وطنه وشعبه. لا نُكره مدّلسي على الحديث باللغة العربية عندما يعبر عن نفسه، ويتكلم باسمه: و»المرء مع من أحبّ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف، ولكن أن يتحدث مدّلسي باسم الجزائر وشعبها بلغة غير اللغة العربية، اللغة الوطنية والرسمية، فلا معنى ولا تفسير لذلك إلا أنه يهين شرف الدولة التي يمثلها، ويهين كرامة الشعب الذي ينتسب إليه، ويهين الدستور الذي يحتكم إليه…

إن كنت يا معالي مدلسي تعرف اللغة العربية وتستنكف أن تستعملها فليس من المروءة أن تمثلنا – دولة وشعبا- وأنت تحتقر لغتنا، وبالتالي فلا حلّ أمامك إلا ترك المنصب لمن يمثلنا تمثيلا حقيقيا..، وإن كنت لا تعرف هذه اللغة – بعد 50 سنة من استرجاع »الاستقلال« – فنؤمن بما وصفت به نفسك أمام محكمة البليدة في قضية »الخليفة»، حيث قلت – وكنت حينها وزيرا للمالية – : «إنني لست ذكيّا» (2)، ومع ذلك فإنه بالرغم من ضآلة منحة تقاعدي فإنني أتعهد بدفع ثمن من تختاره ليدرّسك »السويعة» في اللغة العربية..

إننا لا نطلب منكم أيها المسؤولون في مختلف المستويات أن تحبوا اللغة العربية، »أنلزمكموها وأنتم لها كارهون«، ولكننا نطلب منكم أن تمثلونا بلغتنا، ولتتأكدوا بأن القوم الذين تزحفون على بطونكم لإرضائهم بالحديث بلغتهم لا يحبونكم، ولن يحبوكم ولو جعلتم القمر في يسارهم، والشمس في يمينهم.. أليست لكم كرامة؟ أليس لكم «نيف»؟

انظروا عن أيمانكم وشمائلكم لتروا الممثلين الجدد للشعبين الشقيقين التونسي والمغربي كيف يعتزون بشعبيهم، ويقدسون ثوابتهم..

وأعود إلى سبب ذكر المناضل الأصيل أحمد بومنجل وهو أن الدكتور محمد عزيز الحبابي، الأستاذ المغربي الذي يدرس في جامعة الجزائر في سبعينيات القرن الماضي، حدثنا قائلا:

»حضرت ندوة لجميعات من دول البحر المتوسط، عقدت في أواخر الخمسينيات بمدينة روما. وقد مثل الجزائر. في تلك الندوة المناضل أحمد بومنجل، الذي أدهشني بإلقائه كلمة الجزائر بلسان عربي مبين.

إنني أعرف أحمد بومنجل، وأعلم أن لسانه في لغة يَعرُب لا يكاد يُبين، ولذلك كنت أنتظر رفع الجلسة بفارغ الصبر لأسأله عن هذا العلم اللَّدُنّي باللغة العربية..

رُفعت الجلسة فأسرعت إلى أحمد بومنجل فاستنبأته النبأ، واستجليته الأمر، فسلمني خطابه وهو يتبسم، فإذا هو كلام عربي فخم، مسطور بالحروف اللاتينية، فقلت له: ولكن من علمك هذا الأسلوب البليغ، ومن أين لك هذا المستوى الراقي؟

تبسم أحمد بومنجل مرة أخرى، ووضع يده على كتفي، وهو يقول: إن الذي أملى عليّ هذا الخطاب هو الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، لأني أمثل الجزائر، والجزائر الحقيقية لا يمثلها أعجميّو اللسان، خاصة وهي تخوض ثورة شريفة لتُسفّه دعوى الفرنسيين بأننا جزء من فرنسا..«.

إنّ في هذه القصة، التي أشهد الله أنني سمعتها من الدكتور محمد عزيز الحبابي، لبلاغا وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإن لم تؤت أكلها، ولم تحدث أثرها، واستمر القوم يتملقون فرنسا باستعمال لغتها الميتة، فتأكدوا أنهم ممن قال الله – عز وجل- في شأنهم: « واعلموا أن الله يحولُ بين المرء وقلبه»..

ورحم الله الدكتور محمد الأمين الدباغين، الوطني الصميم، وأول وزير خارجية في حكومتنا المؤقتة، حيث لامه شخص »من إيّاهم« على استعماله تعبيرا غير فصيح باللغة الفرنسية، فردّ عليه ردّا جعله يتوارى، وهو : »إنني استخدم الفرنسية لا أخدمها«. (***)(Je me sers du français, et je ne le sers pas)

ومرة أخرى، صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم- القائل: »تجدون الناس معادن… «. وإنني أدعو الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية أن ترفع دعوى ضد كل من يتوقّح، وتأخذه العزة بالإثم فيهين شهداءنا الذين استشهدوا من أجل دين الجزائر، ولغة الجزائر، ووطن الجزائر..

ــــــــــــــــــــــــــــ

*) هذا التعبير »يأكل الطعام ولا يمشي في الأسواق« أطلقه الدكتور عبد الرزاق قسوم على وزير سابق للشؤون الدينية، «خلعتو» كلمة وزير، فظن نفسه »النمرود« »يحيي ويميت«، وظلم أناسا شرفاء، فلما «لُفِظ» صار يخشى الالتقاء بالناس، ويتوارى من سوء ما قدمت يداه، وإن طلب شخصا في الهاتف لا يصرح باسمه خشية أن لا يرد عليه الشخص المطلوب، ويكتفي بكلمة ً«صديق».

**) مثل عربي يطلق على من لا يُعرَف لا هو ولا أصله.

1) موسوعة أعلام الجزائر (1954 1962). مركز الدراسات والبحث في الحركة الوطنية والثورة.

2) جريدة الشروق اليومي في 20 / 3 / 2007. ص 7.

***) هذه الحادثة رواها الدكتور أحمد ابن نعمان عن المناضل محمد العربي دماغ العتروس.

مقالات ذات صلة