الرأي

من فقه الأزمة

أبو جرة سلطاني
  • 1483
  • 11
ح.م

قال تعالى على لسان الجن: “وإنّا لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربُّهم رشدا” الجن: 10، وهذا من تمام تأدب الجن مع ربهم (جل جلاله) فما كان يجري في الكون من تحولات متسارعة ببعثة محمد (ص) لم تكن الجن تعلم أخيراً هو أراده الله لسكان الأرض أم هو شر أراده لهم فكان له ما أراد. فقالت الجن: لا ندري ما أراد الله بأهل الأرض. فهل يدري الناس بمراد الله في خلقه؟ والأرض أرضه والملك ملكه وهو الذي يفعل ما يشاء ويختار. وإنّا لا ندري أخيرا أراد الله ابتلاءنا به أم هو شر لاختبارنا أم أراد بنا ربنا رشدا؟

سبحان الله، إنسان العصر الجاهلي كان يقف عاجزا عن تفسير ما يجري خلف أسداف الغيب، فيعترف أن الغد بيد صاحب المشيئة العليا. فهذا زهير بن أبي سلمى يعترف بعجز عقله عن استكناه أسرار الغد فيقول:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله * ولكن عن علم ما في غد عم.

وهو المعنى نفسه الذي أقرّه المثقب العبدي بقوله:

وما أدري إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني

هل الخير الذي أنا أبتغيه * أم الشر الذي هو يبتغيني.

سقت هذه المقدمة البسيطة لأنبِّه البشرية إلى مسألتين غاية في الدقة والرهافة والحساسية، وهما من منطلقات راحة البال عند كل مؤمن بهما موقن بجريانهما بأمر الخالق جل جلاله، فمع كونهما بديهيتين إلا أن كثيرا من الناس يغفلون عنهما. وهما:

– أن هذا الكون لله يفعل فيه وبه وبمن فيه ما يشاء. ولا يُسأل عما يفعل، بل الناس الذين يعيشون فيه يُسألون عما أفسدوا وعما كانوا سببا في استدعاء غضب الله وسخطه على ما كسبت أيدي الناس.

-أن الابتلاء بالشرّ كالابتلاء بالخير كلاهما جزء من مشيئة الله وتقديره وتدبيره، والخير والشر ليس في ظاهر الابتلاء، وإنما في النتائج المترتبة عن التعامل مع ظاهر الخير وظاهر الشر: “وعسى.. وعسى”.

وبين “العساءين” ثقوا يقينا أن هذا الوباء مرتحل بأوهى الأسباب في الوقت المقدر له، كما جاء بأوهى الأسباب في اللحظة المقررة بالإبداء وليس بالابتداء. وفي وقتٍ قريب سيتحدث العالم عما بعد كورونا. وستحدث تحولاتٌ ضخمة في بنية الفكر والسلوك والعلاقات الدولية.. وأنت لست مسؤولا عن العالم، ولكنك مسؤولٌ عن نفسك، فهل تتشابه أيام حياتك غدا بما كانت عليه أمس واليوم؟

تقول الحكمة: من تشابه يوماه فهو مغبون، ومن استقام لربِّه أيام كورونا ثم انحرف بعدها فقد قال الله لأمثاله: “فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون” يونس:23.

فما هو سبيل الخلاص؟

الحل في ثلاثة مسالك.

أولها: لخّصه الإمام الجنيد رحمه الله بقوله: “احذر أن تكون ثناءً منشورا وعيبا مستورا”. ومعناه: احذر أن تكون مغرما بمن يمدحك بذكر حسناتك مبغِضا من ينبِّهك إلى مخاطر سيِّئاتك وعواقب نزواتك، فالأصل أن تفرح بمن يهديك عيوبك، كما قالها الفاروق: “رحم الله امرأ أهدانا عيوبنا”. وتتحلل من المداحين والمتزلفين والنافخين في هوى غرورك. فالخاسر يوم القيامة من يكتشف أن بطانته غررت به بتضخيم محاسنه وأخفت عنه مساوئه أو زينتها له فراها حسنة. وهو ما حذر المولى (جل جلاله) منه كثيرا من المغرورين، وما اكثرهم في زماننا:” أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء” فاطر: 8. والثاني: يقين العلم بأن الدنيا فانية، وأول الفانين فيها بنو آدم وأن بعد الموت بعثا وعرضا وحسابا وجزاء. الناجي يوم القيامة اثنان.

– مؤمن كانت سريرته خيرا من علانيته.

– ومؤمن تساوى في خلقه السر والعلن.

وقد كان سلمة بن دينار المخزومي يقول لمن يسأله النصح: “اخف حسناتك كما تخفي سيئاتك. ولا تكوننّ معجبا بظاهر عملك فلا تدري أشقي أنت أم سعيد”. فبين الخير والشر ممرّ سري تغطيه صدقة يتصدق بها المرء بيمينه فلا تعلمها شماله. ولكن في زماننا كثر الناشطون الذين يُبطلون صدقاتهم بتعليقها على حبال شبكة العنكبوت قبل أن ترفعها الملائكة الى السماء.. فمن الناس من يتصدق بكمامة أو بمطهر أو بكيس سميد.. فينشر أخبارها في الفضاء الأزرق بالصوت والصورة الملونة في الوقت الحقيقي (لايف) ويكتب تحتها “بارتاجي”..! وهو لا يعلم أنه أبطلها بالمنِّ والأذى وطلب السمعة ليقال جوّاد.. وقد قالوا..!

وما أكثر من يتصدق ابتغاء المديح وقد كثر في زماننا من يحبك لأنك تمدحه بما لم يعمل، فإذا سكت لسانك عن ذكره أبغضك وقلاك. وكثر في زماننا الذين يحبون أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا وقد جهلوا أن أعظم الحسنات ثلاث:

– نية صادقة مع إخلاص وصواب.

-صدقة خفية تظل خبيئة لصاحبها عند ربه.

– وركعتان في جوف الليل لا يسمع ما فيهما سوى الذي خلق الظلام.

والثالث: تجديد النية، فتجديد النية عبادة منسية، وأنت تستطيع أن تجعل حياتك كلها عبادة بالحرص على تجديد نيتك وتصويبها تلقاء مرضاة الله في ما أنت مقبل على فعله: فبالنيّة الحسنة يصير بقاؤك في بيتك اعتكافا. وصبرك رباطا تنتظر من الله الفرج. ونية عدم احتكاكك بالناس حمايتهم من الإصابة. وحماية لنفسك بعبادة الأخذ بالأسباب. والجهد الذي تبذله مع أسرتك جهادا ترجو ثوابه عند من ابتلى البشرية بأصغر جنوده…

ثم أخيرا لا تنس الدعاء لإخوانك فإنه عند الناس من صلة الرحم وعند الله من القربات، فلا شيء ينفع أخاك كدعائك له بظهر الغيب. ومن فقه أويس القرني أن رجلا لامه بالقول: لماذا لا تزورنا يا أويس؟ لماذا لا تصلنا ونحن بحاجة إلى زيارتك؟ فأجابه: والله أنا أزوركم بما هو خير لكم من الوصال واللقيا.. قال له: ولكننا لم نرك.. قال: أزوركم كل ليلة بالدعاء لكم بظهر الغيب في خلواتي. فالزيارة واللقاء ينقطعان أما الدعاء فثوابه باق”. فلا تنسونا من خالص دعواتكم بظهر الغيب.

فاللهم هذا الوباء من جندك، وقد بسط نفوذه على ضعفنا بسلطانك، فحُل بيننا وبينه بلطفك وعفوك وسترك ورحمتك.. فإنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء. آمين.

مقالات ذات صلة