-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من هنا يبدأ النضال

التهامي مجوري
  • 775
  • 2
من هنا يبدأ النضال

تبدأ مهمة المناضل من الانضباط في حياته العادية، قبل أن يحمل هذا العنوان -المناضل- المميز له عن غيره من الناس، فهو إنسان مستقيم أخلاقيا وصاحب سلوك إنساني عادي، لا يظلم ولا يقبل الظلم، يقوم بواجباته وفق ما يتاح له من فرص ووسائل، يغالب الصعاب ولا يستسلم لها، لا يسلم بالأمر الواقع إلا بالمقدار الذي تحتمه الضرورة -أو هكذا يفترض على الأقل-، كل ذلك إيمانا منه وبشعور لازم له بأن له مكانة ودور في الحياة، فيحرص لأن لا يتنازل عن هذه المكانة، ولا يفرط في ذلك الدور، وذلك ما عبر عنه القرآن الكريم بمصطلح “الخلافة” (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة 30]، (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)  [يونس 14] أي “قوما يخلف بعهم بعضا” كما قال ابن كثير في تفسيره للآية 30 من سورة البقرة، للقيام بما يريد الله من البشر لتحقيق مصالهم ودرء المفاسد الناجمة عن حركاتهم في الحياة، وتجسيدا لمعنى الخلافة بمفهومها الإيجابي النضالي وهو المكانة التي يتطلع إليها البشر بفطرتهم، والدور الذي يجب عليهم القيام به بقدر متوازن وتناغم معتدل بين ما تهدف إليه الذات من رفعة وعلو واستغناء، وما يتطلب ذلك من واجبات يفرضها الدور المنتظر من هذه الذات.

إن جدلية “المكانة والدور” في الحياة هي نفسها جدلية “الحق والواجب”، التي لا تزال غائبة في قاموس النضال السياسي تحديدا، بحيث لا يحس المناضل في بلادنا العربية والإسلامية وغيرها من العالم الثالث المتخلف، بغياب الواجب في الحياة الاجتماعية، بقدر شعوره بضياع الحقوق، تلك هي الصورة المصغرة، لشعوره بضياع مكانته بين الناس قبل إحساسه بواجباته نحوهم!!

وهذا الشعور وتلك الأحاسيس ليست منحصرة في المناضل فحسب، وإنما هي عرف عام جار بين الجميع، وربما يكون المناضل ضحية هذه الثقافة السائدة التي تضع العربة قبل الحصان كما يقال، فبدلا من أن يبدأ في تشخيص الأمراض والإنحرافات والنقائص، فيبدأ في معالجة الأسباب الحقيقية لذلك، يجد نفسه يستجيب لنداءات الحقوق استجابة للمتضررين العاجلة!! التي قد تخفي الضرر الحقيقي أو الضرر الأصل المتمثل في حالات المتضررين الصامتة، ومنها أن الجماهير نفسها تحتاج إلى عملية تثقيف للكشف عن أهمية المكانة والدور، وتأهيل للقيام بالواجب.

وأفضل من طبق هذه المنهجية في تسعينيات القرن الماضي، حزب الجبهة اّلإسلامية للإنقاذ في الجزائر في البلديات التي فاز فيها برئاسة المجلس، بحيث جند مناضليه لخدمة بلدياتهم تطوعا، وقد رأيت بعيني بعض مناضلي الحزب –من المقاولين- يشتغلون بألاتهم في ورشات تابعة للبلدية تطوعا، وكذلك فكرة الأسواق التي نظمها هذا الحزب في الكثير من البلديات، رحمة بالمواطنين، وقطعا لدابر المضاربين، بحيث كانوا يجلبون الخضر من المزارع مباشرة للمستهلك، لتصل إليه بالسعر المناسب لحاله.

وعلى ما في هذه التجربة من تجاوزات على أسواق الجملة والوسائط المشروعة، فإن الفكرة في حد ذاتها جيدة، تشعر الناس بالواجب السابق للحق، كان يمكن تهذيبها وتطويرها لو استمرت.

على أن الانحراف الذي يصيب المجتمع، والنقائص التي تعتريه، لا تأتيه من خارجه، وإنما منبعها من داخله، وإذا كان هناك تأثير خارجي فهو حاصل بالتبع، وليس هو الأصل.

فالتهرب الضريبي مثلا، وسوء التسيير الإداري، وغيابات العمال عن عملهم، وتخريب المواطن للمرافق العامة، والسرقة والنهب للمال العام…، كل ذلك يصيب المجتمع بالعجز في القيام على شؤون أفراده، فتقع الاضطرابات والنقائص، وتستشري المظالم ويكثر الفقراء وتتسع دائرة الاختلالات شيئا فشيئا إلى أن يقع الشرخ فتتسع الهوة بين القمة والقاعدة، بحيث يمكن أن يكون في المجتمع الواحد، مؤسستان: مؤسسة الشعب الذي فقد الثقة في مسؤوليه بسبب انحرافاتهم، فآثر التمرد على مؤسساته الرسمية ليعيش على هامش المؤسسات، بحيث لا يلجأ إليها في قضاء مصالحه إلا لماما او للضرورة القصوى؛ لأن فقدانه للثقة في الرسميات ألجأه إلى قضاء مصالحة عن طريق المعارف والعلاقات الخاصة والرشاوي…إلخ، وعندما تستشري مثل هذه السلوكات، يصبح التمرد وعدم الثقة هو الذي يمثل قواعد السير الناظمة للعلاقات وليس القانون أو الإدارة، بحيث تتحول هياكل الدولة بكلها وكلكلها، مجرد واجهة لدولة وممثلة لشعب لا يعترف بها.

على أن مؤسسات الدولة التي هي المؤسسات الرسمية، هي بدورها تدير الأزمة وفق الطرق التي تضمن لها البقاء والاستمرار، اكثر من تفكيرها في مصالح الشعب وخدمته؛ لأنها مدركة لعدم الاعتراف بها، فتمرر عليه الأمور بالقوة والقهر والاستبداد…، وتستمر القطيعة بينهما إلى أن يدركا او يدرك أحدهما الخلل وخطورته على الجميع، ولنا في ذلك امثلة كثيرة،ٍ منها سقوط العراق بتلك الصورة المهينة، والربيع العربي الذي كشف عن سوءة الأنظمة العربية والهوة التي بينها وبين شعوبها.

في مثل هذا الجو تظهر ضرورة النضال ووجوب الاهتمام بالشأن العام كضرورة ومطلب ديني واجتماعي وسياسي، وضرورة تصحيح المطلقات؛ لأن النضال لم يبدأ اليوم، وإنما كان النضال أعرجا، يمارس مهامه وفق طريقة الأنظمة الفاسدة نفسها.

فالمطلب الديني يقتضي من أفراد المجتمع المكلفين القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كثقافة سائدة ورائجة بين الناس، لا يليق بالفرد فيها قول “واش. دخلك؟” أو “واش دخلني؟” لغيره من الناس؛ لأن التساهل مع المنكر في المجتمع، يرشحه للتعميم على الجميع، فيعم فاعله والساكت عليه (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال 25]؛ بل تتجاوزهم إلى الناهين عن المنكر أيضا إن لم يبلغ عددهم وقدراتهم ووسائلهم القدر الكافي لمواجهة المنكر…، ولأهمية هذا الموضوع من جانبه الديني، لم يكتف الشرع بالحث على النهي عن المنكر فحسب، وإنما حث الأمة على القيام بالأمر بالمعروف، وبإقامة العبادات؛ لأن العبادات تساعد على إشاعة الفضائل وتقليص مساحات الرذائل، وربط كل ذلك بالجزاء الإلهي، الذي هو جزاء أكبر وأوفى وأنفع من كل جزاء.

أما المطلب الإجتماعي فلكون النضال يؤطر المجتمع ويهيكله في إطار طبيتعه التي خلق عليها، التي هي الحياة المدنية والإجتماعية؛ لأن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه، ولكن بحكم تضارب المصالح بين الفئات والجماعات والأفراد، قد ينحرف الإنسان عن طبيعته التي خلق عليها، فتغلبه أنانيته وذاتيته، فيظلم ويعتدي على الآخرين ويتجاهلهم،  فتكون مهمة النضال إعادة هذا الإنسان إلى طبيعته ومحاولة إصلاح ما طرأ من مفاسد على الطبيعة البشرية الخيرة.

أخيرا المطلب السياسي، الذي هو بطبيعته خاضع للعقد الاجتماعي، فما من مجتمع إلا وهو مبني على قواعد ضابطة للعلاقات بين فئاته وأفراده فيما يعرف بالدستور او المنظومة القانونية أو العرف والعادات، المبنية على هوية سياسية تتشكل بطرق عفوية كما هو الحال في المجتمعات البسيطة، أو توافقية كما هو الحال في المجتمعات المعقدة، مثل المجتمعات المتعددة الأعراق والديانات واللغات…إلخ. فمهمة النضال هنا تكون بالحرص على تثبيت المنطلقات وجمع الناس عليها، فمثلما نجمع الناس على احترام مقررات الدين والإجتهاد في العمل بها، ونجتهد في تأطيرهم لإعادتهم إلى الأصول التي خلقوا عليها وهي أثبت من خصوصياتهم وميولاتهم الفردية والفئوية، كذلك يعمل النضال على جمعهم على المشتركات الإنسانية، والحاجات التي هي محل إجماع بينهم، مع الإبقاء على الباب مفتوحا على تطوير كل ما يخدم الجميع ماديا ومعنويا.

وكل ذلك ينبغي ان يؤسس على منطلقات صحيحة متحررة من ضغط الواقع، والارتقاء به إلى المثل العليا والبرامج المراد تنفيذها، سواء بممارسة المعارضة أو الموالاة أو بتجاهل السلطة نفسها.

وإذا لم يكن المناضل بهذا المستوى من الإستيعاب لقضايا الإنسان وحاجاته، لا يستطيع أن يقفز بنضاله إلى ما يتطلع إليه المجتمع عموما، لا سيما وأن المطلوب من المناضل أن يستوعب الواقع ويتجاوزه بما يعرض على المجتمع من إضافات وتجديد في الحياة، والإستيعاب وحده يحتاج قدرا من المعرفة والوعي تمكنانه من فهم مطالب المجتمع وما هو محقق ويحتاج إلى تطوير، وما لم يتحقق ليعمل على إيجاده، وكل ذلك يضاف إلى مُسَلَّمة أبجديات المجتمع بأبعادها ومطالبها الدينية والإجتماعية والسياسية، دراسة وتقييما لمجمل المبادئ والوسائل والغايات، وتصنيف القضايا إلى كليات وجزئيات، وترتيب الأولويات الأهم والمهم والأقل أهمية، وأخيرا بناء المشروع الذي يريد المناصل من أجل إقامته في الواقع، سياسيا كان أو اجتماعيا خيريا أو نقابيا أو غير ذلك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • المتأمل

    النضال ليس توزرع المواد الغذائية على المحتاجين والمعوزين ... لأهداف خبيثة وماكرة .

  • ديدوش مراد

    ان انعدام الاخلاق والانسانية والوازع الدينيوغياب للضمير المهني ببلادنا ( هناك تلاعب وتجارة باسم الدين في مجتمعنا كله ) هو سبب الانحطاط والتقهقر والتاخر علي جميع المستويات . هناك اخلاق وانسانية وعدالة ومساواة باوروبا وامريكا لكل الناس علي اختلاف اعراقهم واجناسهم ودياناتهم ولهذا السبب تطوروا نتقدموا وارتقووا وابهروا