-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من يرث خَاتَمَك.. يا سُليمانُ؟

لمباركية نوّار
  • 1357
  • 1
من يرث خَاتَمَك.. يا سُليمانُ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما تُحيّد الأساطير والخرافات والأباطيل وتزاح جانبا، وتُزال ستائر الغباء والتهافت الداكنة التي تتلوها، تصفو عبارة: “خاتم سليمان” الوجيزة والمتداولة بين الناس، وتتحلل من كدر التمويهات وتتطهر من عفن الافتراءات التحريفية المغرضة والتضليل الشنيع والاعتقادات التشويهية الباطلة. ويصبح محمولها ثريا وزاخرا بمعاني النفاسة والشرف والعز، ومملوءا بنية العلو ومحبة نفاذ الأمر وتحقيق الطموحات.

بفضل سحر عبارة “خاتَم سليمان”، استطاع الفقيد سليمان بخليلي، رحمه الله، أن ينحو نحو قمة المجد. وعلى أرياش جناحيها رحل لغزو قلوب محبيه والعزف على أوتار شغافها حتى انجذبت إليه ورددت تسابيحه معه داخل وطنه بأصوات شجية. وبجوهرها الآخاذ، نقل الصورة الحقيقية عن لسان الشعب الجزائري إلى البلدان العربية التي كثيرا ما ظلمته، وأساءت الظن بنقاوة قاموسه التواصلي، وحسبته ثقيلا هجينا، واعتبرته لا يحسن النطق إلا برطانة ملبكة محشوة بالدخيل المدسوس. ورأت أنه لا يلفظ كلماته سوى عن عُجمة وضعف وخلط في الإفصاح، وأبصرت في نسيج كلامه ركاكة وقلة فصاحة في التعبير.

استطاع سليمان بخليلي الذي ينتمي إلى قبيلة أولاد أيوب الرابضة في مرتفعات جبل أحمر خدو الأجرد والأمرد، الواقع في الأوراس الجنوبي، وذي الوجنات الحمر كلهيب النيران، والتي تزداد حمرة في السنوات القاحطة التي يقتل شحها حياة بذور النباتات في مضاجعها. وفي بعض مناطقه، يكون أصدأ، أي أن احمراره يميل إلى السواد. استطاع سليمان أن يقتبس شعاعا من نور جده المجاهد الشيخ سيدي الصادق بلحاج صاحب الزاوية الشهيرة التي لا تفصلها عن مسقط رأسه قرية سيدي المصمودي سوى بضعة أميال تقطع بالأرجل عبر مسلك غير معبد وقليل المشائين حاليا، والذي نازل الجيش الفرنسي في انتفاضة شعبية أقضّت مضجع المستعمر المستبد بعد أن قصد أحمد باي وصحبه جواره يطلبون موئلا ونجدة لأنفسهم، ويتلهفون إلى منعة ومحرز. واستفاد سليمان من الشعاع المقتبس، وانطلق يضيء به طريقه، ويطرد ظلامها. ومثلما سار الجد حاملا راية القرآن الكريم ومُشيعا في مريديه الخلصاء حفظه وترتيله، واصل الحفيد السير في نفس الطريق وآيات الذكر الحكيم في صدره والمصحف الشريف في يده.

التقيت، لأول مرة، الأخ الفقيد سليماني بخليلي مصادفة في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي في إحدى المؤسسات التعليمية في مدينة باتنة، وكان يومذاك يشغل منصب أستاذ مستخلف في مبحث اللغة العربية. وقدمته إلي مديرة المؤسسة بعبارات منمقة أطلقت فيها العنان لإعجابها به وبحيويته اللافتة، وقدرته على كسب قلوب طلبته من الجنسين. وفي آخر كلماتها، اقترحت عليّ أن نجلس في نهاية العمل على طاولة غداء واحدة للتعارف أكثر، فوافقت على تلبية طلبها مغتبطا. وفي حوارنا، عرفت منه أنه يزاول دراسته في معهد اللغة العربية وآدابها بجامعة باتنة، وأنه على أبواب التخرج. ولمست في كلامه ميله إلى رسالة التربية والتعليم وعشقا لها. ومازال شيء من حديثنا المتبادل مستقرا في ذاكرتي. وبعد الغداء، افترقنا بعد أن طوينا جنبا إلى جنب شطرا من شارع طويل من شوارع مدينتنا.

لم تنقطع علاقاتي بسليمان، وكنا نتواصل بالهاتف على أزمنة متفرقة، أو بالسؤال عنه عند أبناء عائلة من أقربائه تجاورني المسكن. ثم أصبحنا نتواصل ونتناقش بالبريد الإلكتروني وبقية الوسائل الحديثة الأخرى. والتقيته في المرة الأخيرة، في شتاء سنة 2018م، أي بعد أن قفزت بنا سنوات العمر بحوالي ربع قرن من لقائنا الأول، التقيته مصحوبا بالأخ الصحفي محمد عباس في احتفالية إحياء ذكرى الشهيد حسوني رمضان الذي سقط شهيدا في معركة دارت رحاها في جبل بوكحيل. ولم نفترق طوال ساعات الصباح. ولما كنا نهم الدخول إلى ثانوية بلدة مزيرعة القريبة من مدينة بسكرة شد انتباهي أن لافتة واجهتها أسقطت منها رتبة من توشحت باسمه، وكتبت بالصورة: “ثانوية المقاوم الشيخ الصادق بلحاج”، أي شطبت لفظة: “سيدي” منها. وهي لفظة تدل على رتبة تربوية عليا في سلم الرتب العلمية قديما، وأبديت ملاحظتي أمامه عن هذا المحو المشين. ولما أعطيت له الكلمة للحديث أمام الحاضرين، لم ينس أن ينبه بأسلوب ذكي وفي مرافعة دقيقة حاذقة إلى ما شرت إليه حتى تصوّب اللافتة باستدراك ما سقط منها سهوا أو أسقط عمدا.

إذا كان الإعلام بكل صنوفه سلاحا قويا ذا حدّين في التأثير وفي التوجيه وفي صناعة الرأي العام وتجنيده، حدّ إيجابي بناء وحدّ سلبي هدّام، فإن الفقيد سليمان بخليلي احتضن منه شقه الأول، وطوّعه في التثقيف ونشر الوعي والترويج للتربية الاجتماعية الصحيحة التي تبني مواطنين أسوياء فكريا ومعتدلين سلوكيا بكل ما أضفاه عن البرامج التلفزية التي كان يقدمها من مضامين مختارة وهادفة وغايات مرجوة تتقاطع كلها مع الالتزام بثوابت الوطن، وتنبذ الشقاق، وتدرأ المفاسد العاطبة وتمنعها من التعشيش في العقول حتى لا تحجب عنها الرؤية الواضحة عن الإنسان والكون والحياة.

استغل الفقيد سليمان بخليلي الوسيلة الإعلامية المرئية ذات التأثير الواسع استغلالا حسنا، ووفق في توظيفها لخدمة اللغة العربية العزيزة التي امتلك نواصيها وبلاغتها وبيانها وشاردها وواردها، وبرع في فن الخطابة بها. ولم يتوقف عن المنافحة عن لغة القرآن منافحة عملية بلا عراك أو سجالات أو خصومات في وسط كثر فيه المشككون في عبقريتها وفي إمكانية حضورها العالمي مع بقية اللغات الأخرى.

وبالمثل، خدم الدين الحنيف في استقامة واعتدال من خلال برامجه القرآنية المتميزة، واستطاع أن يوصل قيمه ومبادئه السمحة إلى قلوب متتبعيه قبل عقولهم، وأن يزودهم باليقينيات التي تجعل من هذا الدين محجة واضحة ذلولا ومهيعا بينا منبسطا لا يشقى سالكوه، ولا يستولي عليهم التعب ولا النصب. وسخر فكره وجهده ووقته للتنويع في برامجه التلفزية الأدبية الشعرية والدينية، وجعلها تلتقي كلها في هدف مشترك كما تلتقي مياه جداول الأمطار المتقاربة في مصب واحد. وقدم دليلا مرضيا على أن خدمة الدين لا ينفع معها سوى المرجعية الوطنية المتوارثة منذ قرون حفاظا على وحدة الأمة، وأن هذا المسعى لا يحتاج إلى إنشاء حزب تستثمر عائداته في الرفع من الرصيد الفردي أو الجماعي الضيق بانتهاج أسلوب المراوغة والتحايل والخديعة والبهتان.

لم يتنكر الفقيد سليمان بخليلي لمظاهر أمازيغيته النقية التي كان يقرأها في وجه أمه وفي الإرث اللساني والمادي المتوارث عن أجداده. وفي نفس الوقت، لم يجعل منها ضرة منافسة للعرق والثقافة العربيين. وإنما ألّف بين العربية والأمازيغية، وأظهرهما في علاقة مستمرة كتوأم سيامي ملتصقين في أجزاء من الجسم ومنفصلين في أجزاء أخرى. وبذلك يغرف كل منهما من الوعاء الحضاري والتراثي لصنوه ولا يبالي. وجمع بينهما في وئام تكاملي خال من الخلاف والتضارب. وقرأ في هذا التنوع قدرة الخالق الذي عدد الألسن ولكنه ربط بين القلوب والجوارح في إخاء ومحبة على قطعة جغرافية واحدة.

لم أنس ذلك المساء الذي كلمني فيه الأخ سليمان بخليلي، رحمه الله، ليخبرني أنه أنهي كل التحضيرات لبعث برنامج تلفزي جديد يدعم به باقة برامجه الأخرى، ومنحه اسم: “زدني علما”. ويؤكد هذا الاسم، مرة أخرى، تعلقه بالقرآن الكريم. وبعد تبادل السلام والتحايا، طلب مني أن أكون أول ضيوفه للمشاركة في هذا البرنامج المبتكر. ولما وجد مني إصرارا على الاعتذار والامتناع، سألني عن الأعذار، فجمعتها كلها في جملة واحدة مؤداها أنني رجل “ظلي”، يميل عن طبع إلى الانعزال، ولا يجري خلف الظهور والبروز بعد أن شكرت له دعوته التي أوحت إلي بأنني من أصدقائه الأثيرين والمفضلين.

على امتداد رحلته المرضية الأخيرة، لم أتأخر عن محاولة الإتصال به هاتفيا لسماع صوته والاطمئنان عليه، وفي كل محاولة، لم أكن أسمع سوى رنين هاتفه. وعرفت أن المرض قد حبسه، وأذبل قوته، ولم تعد قدراته الحسية والحركية تكفيه مؤونة التجاوب والاستطاعة على التفاعل. وقد حدثني الأستاذ علي بن فليس أنه تواصل معه قبل أن يسلم الروح إلى بارئها من خلال رسالة إلكترونية قصيرة قال له فيها: (تحية أخوية لك، الأخ المحترم سي سليمان.. شفاء عاجل، إن شاء الله. مع تحياتي ودعائي لك بكل خير..). وبعد مضي حوالي عشر دقائق، رد عليه بقوله: (حفظكم الله ورعاكم. تغمرني سعادة بالغة وأنا أقرأ مواكبتكم لي ومرافقتكم بالدعاء، أخي الغالي سي علي. أبعد الله عنكم كل بلاء. ووالدكم الشهيد البطل المرحوم دائما محاط بدعائنا وتضرعنا. تحياتي ومودتي لك وللأسرة الغالية).

كان رحيل الأخ الصديق سليمان بخليلي إلى دار النعيم الأبدية رحيلا مرفوقا بالحزن العارم والشجن الكبير والدموع الحارة. وأما وديعته التي خلفها وراءه فهي خاتمه. وهو خاتم غير مرصع باللآلئ والحجارة الكريمة، ولا يلبس للتباهي والتفاخر والزينة، وإنما هو خاتم أوجده لخدمة الثقافة واللغة والدين في وطنه، وليسمع به الصوت الحقيقي والصورة المثلى للجزائر في بقية الأمصار. فمن يرث خاتم سُليمان؟، ومن يمتطي صهوة فرسه المسرجة؟… رحمك الله أخي سليمان، وجعلك من الفائزين بنعيم الجنة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • بن طالب

    ولا غالب الا الله البقاء لله يا بشر هذا يسمي البكاء علي الاطلال