الرأي

من يقود المجتمع إلى التغيير؟

التهامي مجوري
  • 2922
  • 13

يتساءل كل مجتمع متطلع إلى الإصلاح والتغيير في حيرة: من أين يبدأ التغيير؟ “من فوق أو من تحت”، أي من السلطة أم من الشعب؟ من يقوم به وما هي مواصفاته؟ وكيف يتحقق؟ وما هي غاياته مراحلها؟… وإلى ما هنالك من التساؤلات، التي تختلف فيها الاجتهادات ووجهات النظر..، ثم هل بمجرد أن نؤسس حزبا أو جمعية أو نكون مجموعة ضغط، نكون قد بادرنا بعملية التغيير، وشرعنا في مقدماته؟ أم أن التغيير لن يكون إلا عندما نكون في السلطة متحكمين في دواليبها؟ أم لا هذا ولا ذاك ولا ذلك؟
كل هذه التساؤلات مشروعة، ولا بد من الإجابة عنها، لكل من يريد المساهمة في عملية الإصلاح والتغيير، ولكن أهم مسألة في تقديري ولها الأولوية في الإجابة عن كل هذه التساؤلات، لكونها ذات علاقة مباشرة بعملية الإصلاح والتغيير هي: من يقوم بهذا لإصلاح؟ وما هي مواصفاته؟
سواء كان هذا الذي يقوم به في السلطة أو في المعارضة أو كان من عامة المجتمع.
والمتتبع لحركات المجتمعات الناهضة، وعمليات الإصلاح والثورات، التي شهدها العالم عبر التاريخ، يلاحظ أن هناك قيادات من المصلحين والمفكرين والأدباء السياسيين ومقودين وهم عامة المجتمع.
فالقيادات هي التي تضع الخطط والبرامج، وتنزلها إلى واقع الناس كسلوكات وأعمال وإنجازات ملموسة، ابتداء من فعل المواطن البسيط، التي قد يكون في سلوك أخلاقي داخل أسرته، وتجاه جاره وزملائه في العمل، وانتهاء بإنشاء المشاريع الاستثمارية وبناء المصانع، من قبل الدولة ونخب المجتمع من أرباب المال والمستثمرين.
وهاتان الفئتان من القيادات والمقودين، هم الذين يمثلون مجموع المجتمع، ولكنهم قبل أن يصبحوا قادة ومقودين، كانوا قبل ذلك ثلاث فئات من نوع آخر –أي قبل أن يصنفوا قيادات ومقودين- وهم فئة الأبطال من المُؤْثِرين على أنفسهم من أجل النهوض بالمجتمع، وفئة المُؤطَّرين وهم المهيكلون في المؤسسات الرسمية والشعبية كتقنيين خداما للمجتمع وعاملين فيه، فصنعوا لأنفسهم مكانة بمبادراتهم وأعمالهم المثمرة وصقديتهم الفعالة، فاكتسبوا شرعية مكنتهم من الحصول على ثقة المجتمع بأكمله، فقادوه إلى ما يخدمه ويخدم مصالحه، والفئة الثالثة هي فئة الأتباع وتمثل باقي المجتمع.
وقبل أن يتحول المجتمع إلى هذا المستوى المفروز، أبطال ومُؤطَّرين وأتباعا في المجتمع، كانوا خبراء وحرفيين وعمالا فيه.
فالخبراء هم الذين تعلموا وانتهوا إلى أعلى مستويات التخصص العلمي الذي اختاروه، فأصبحوا خبراء فيه، في جميع فروع الحياة، التقنية، التكنولوجية، والإجتماعية والإنسانية، ومارسوا ذلك في الواقع. والخبراء في الواقع عندما يختارون هذا الاتجاه في طلبهم للعلم، قد لا يكون اختيارهم بقصد النضال والتغيير والإصلاح، وإنما قد تتحكم في اختياراتهم أمور أخرى، مثل الفضول المعرفي، إذ ينساق المرء إلى طلب المعرفة بالشيء لمجرد التعمق فيه لمزيد المعرفة والفهم..، كما قد يكون استجابة لسوق العمل، فيلاحظ الطالب وهو في الدراسات العليا أن الخبرة في المجال الفلاني مطلوبة، فيطلبها لذلك، كما قد يختار المرء المجال نضالا، أي يشعر بأن مجتمعه في حاجة إلى تخصص ما فيطلبه لذلك، وفي كل الأحوال الخبرة مستوى نوعي وله أهميته في المجتمع مهما كانت نية طالبه ومقصده.
أما الحرفيون فهم الذين وصلوا في تعليمهم إلى تحقيق مستوى الاحتراف في ميدان معين، يُمكِّنُهم من التحكم فيه: مثل الطبيب، المعلم، المحاسب، التقني في كل المجالات، التاجر، البناء، النجار، الإداري…إلخ، فهذا المستوى هو دون مرتبة الخبير، ولكنه المستوى الذي يقع على كاهله العمل اليومي في المجتمع، والمدبر الأول في عملية الإنجاز.
ومثلما أن للخبير دور حل المشكلات وإيجاد الحلول والقفز على الأزمات باللجوء إلى الاختراع والإبداع والإضافة، فإن مهمة الحرفي الإشراف على التنفيذ والإنجاز وتحقيق المطلوب من حاجات المجتمع المتنوعة.
أما العمال فهم عامة الناس في المجتمع من غير الخبراء والحرفيين، من الذين يقع على عاقهم الجانب التنفيذي بتفاصيله لحركة المجتمع، فهم العمال البسطاء، والعمال المتقنون “ouvrier spécialisé”، وهم المنتجون في المصانع، وهم المستهلكون لما ينتج ويعرض في الأسواق، وهم الذين يُكْسِبون الأبطال والمؤطرين الشرعية، التي تدعمهم في مشاريعهم الإصلاحية؛ بل هم الذين تستمد منهم المؤسسات قوتها التي أنشتها الدولة لخدمتهم ورعاية مصالحهم.
والسؤال المطروح الآن ما هي نسبة كل فئة من هذه الفئات في المجتمع حتى يتحقق الإصلاح والتغيير؟
يصعب القطع بنسب ثابتة في ذلك، بسبب اختلاف المجتمعات، وتباين المراحل العمرية فيها، ودرجات المستوى التعليمي والتكوين، وهذا ناهيك عن أن الطبيعة البشرية متقلبة وليست ثابتة، والمؤثرات الذاتية للإنسان والموضوعية والخارجية التي لا سلطان له عليها، كلها أسباب للإختلاف والتنوع، ومع ذلك يمكن أن نغامر بوضع نسب نراها أقرب إلى السلوك الإنساني والتجربة التاريخية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان وحده أمة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل 120].
فنسبة الخبراء لا تقل عن 1 بالمائة من مجموع المجتمع، في جميع التخصصات وفي كل ما يتفرع عنها من تخصصات دقيقة وفرعية، ونسبة الحرفيين لا تقل عن 10 بالمائة من مجموع المجتمع، في جميع الحرف التي تتطلبها حاجات المجتمع، والعمال الذين يمثلون 89 بالمائة هم باقي أفراد المجتمع بمن فيهم المتقاعدين الذين يمثلون خزانا للعمل، أي أن أعمالهم التي قاموا بها في حياتهم العملية تحولت إلى جهد مخزن، يستمد العامل الحالي قوته واستمراره.
ونسبة الواحد بالمائة من الخبراء، يوجد فيهم المناضل الذي يؤمن بمشروع وضعه هو، أو وضعه التنظيم الذي ينتمي إليه، أو وضع في إطار مؤسسات الدولة، ويناضل من أجل إنجاحه ويضحي في سبيل ذلك، وهؤلاء هم الذين أطلقنا عليهم مصطلح الأبطال، والأبطال هم الشجعان من ذوي الإقدام والتضحية، ونسبتهم 1 بالمائة من مجموع الخبراء، و0.01 من مجموع المجتمع، وتلي هذه الفئة فئة المُؤَطَّرين، وهي الفئة التي تؤمن بالمشروع وتناضل من أجل إنجاحه، ولكنها غير مستعدة للتضحية من أجل إنجاحه، نسبتها من مجموع الخبراء 10 بالمائة، أي 0.10 بالمائة من مجموع المجتمع، والباقي 89 بالمائة من مجموع الخبراء يمارسون خبراتهم كعمال، ونسبتهم في المجتمع 0.89 بالمائة، فلا يحملون مشروعا يناضلون من أجله أو مشروعا يضحون في سبيله، وإنما يمارسون خبراتهم كتخصص وفق ما تمليه عليهم المهنة، مقابل أجر يتقاضونه وكفى، وفي العادة الخبراء يمارسون مهامهم بصدق ووفاء، وبعيدا عن الأدلجة؛ لأن مهامهم تقنية لا تسمح لهم بالإنحياز وتحريف الحقائق والكذب والتزوير في سبيل ذلك، كما أن مكانتهم في السلم الإجتماعي تقلل من احتمال انحيازهم ضد مصالح المجتمع، ومن ثم فإن فئة الخبراء كلها مرشحة للمساهمة في الإصلاح والتغيير بمجرد تخصصهم وخبراتهم فيه، وإن لم يكونوا منخرطين في مشاريع إصلاحية، ومناضلين ومضحين في سبيل مشاريع يؤمنون بجدواها.
على أن مهمة هذه الفئة، أنها تمارس وظيفتها وخبرتها كعمل يومي، تكشف فيه عن مواطن الخلل في المجتمع ومؤسساته، وتدق ناقوص الخطر عند الحاجة، وتحذر من المخاطر ولو لم يطلب منها؛ لأن ذلك من مستلزمات الخبرة في بعدها الاجتماعي والسياسي، وربما تقدم حلولا في مجالات تخصصاتها في إطار بين يديها من إمكانات..، ولكن هناك عائق واحد لهذه الفئة، وهو أنها عندما تمارس مهمتها في مؤسسة استبدادية، لا تسمح لها بالتطوير والإضافة، فتنكمش الخبرة وتختفي آثارها في الواقع الاجتماعي، أما الخبرة في حد ذاتها لا تتعطل؛ لأن الخبير لا يحكمه الإطار الذي يشتغل فيه، بقدر ما توجهه أخلاقه المهنية، أو هكذا يفترض على الأقل، فهو قد يكون إطارا في إدارة حكومية، وفي نفس الوقت يناضل في حزب معارض…، فخبرته من حيث المبدأ ينتفع بها الجانبان؛ لن النفع في النهاية يعود على المجتمع، ويصعب على الخبير أن ينحاز، إلا بالمقدار الذي يخدم الخبرة.
لأن عمله في الحكومة عمل في مؤسسات الدولة وخدمة للمجتمع، ومعارضته للسلطة او الحكومة التي يعمل فيها، لا تغير من جوهر الخبرة وانتفاع المجتمع بها.
وفئة الحرفيين كذلك فيها 1 بالمائة من الأبطال، من الذين يؤمنون بمشروع يعملون له ويضحون من أجله، و10 من المُؤطَّرين، وهم الذين يؤمنون بمشروع ويعملون له، ولكنهم غير مستعدين للتضحية في سبيله، 89 من العمال لا يشعرون بأنهم معنيون بشيء غير العمل الذي يقومون به، فهم يعملون ويأخذون أجرا مقابل عملهم وكفى.
وأخيرا الأتباع وهم عامة المجتمع، يوجد فيهم نسبة 1 بالمائة من مجموع المجتمع، يشعرون بأنهم معنيون بالإصلاح والتغيير، فيعملون ويضحون حسب قدراتهم وإمكاناتهم المحدودة، فينخرطون في الجمعيات والأحزاب، شعورا منهم بوجوب المساهمة في الإصلاح والتغيير.
والنسبة الإجمالية التي تحدث الإصلاح والتغيير في المجتمعات، حولي 2.99 بالمائة، وتشمل: كل الخبراء ونسبتهم 1 بالمائة، و11 بالمائة من مجموع الحرفيين، و1 بالمائة من العمال الذين يمثلون عامة المجتمع.
والمطلوب من هذه النسبة في عملها الإصلاحي، ليس تغيير كل شيء في المجتمع، أو كسب وُدّ مجموع أفراد المجامع، وإنما إقناع نصف المجتمع بالقناعات الإصلاحية، وتحقيق مكاسب على الأرض: ثقافية وفكرية وتربوية واقتصادية وسياسية…إلخ. فإذا توصل المصلح أو مريد الإصلاح إلى إقناع نصف المجتمع أي نصف ناخبيه، بالأفكار التي يحملها والمشاريع التي يبشر بها، أو بالوصول إلى مواطن التأثير التي يحقق فيها اجتهاداته، فقد حقق أكبر خطوة على طريق الإصلاح.

مقالات ذات صلة