-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
وقفاتٌ عند مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي

مواقف الاتزان والموضوعية ضد سياسة المواجهة والعنف (الجزء الثاني والأخير)

بشير فريك
  • 432
  • 0
مواقف الاتزان والموضوعية ضد سياسة المواجهة والعنف (الجزء الثاني والأخير)

في خضمِّ تلك الأحداث المتسارعة، سعى الرئيس زروال إلى الحوار مع الأحزاب والشخصيات الوطنية، ليجد الدكتور طالب نفسه في مواجهة صريحة مع رئيس الدولة بتاريخ 27 فيفري 1995، ويسجِّل كيف بدأ زروال نقده لعقد اجتماع روما ليُسكِته بسؤال: “هل كنتم سترخِّصون لعقد الاجتماع هنا بالجزائر بنفس التركيبة السياسية والبشرية؟” وصمت زروال ثم تطرّق إلى الانتخابات الرئاسية المقررة في أواخر 1995، ليجيبه الكاتب: “إن تنظيم الانتخابات بهذا الاستعجال ومن دون موافقة مسبقة من المعارضة، فيها مجازفة وستكون مهزلة الخاسر فيها هو الشعب”.
وأنهى كلامه بنصيحة للرئيس زروال: “إن وصولكم إلى السلطة جلب معه آمالا كبيرة، لكن خطابكم الأخير في 31 أكتوبر 1994 وضع حدا لهذه الآمال، أنصحك بعدم تجاهل إرادة الشعب في انتخاب رئيسه بطريقة ديمقراطية”.
كانت جهود الدكتور طالب مراطونية من خلال الخرجات الإعلامية محليا وعبر قنوات أجنبية واللقاءات مع الشخصيات الوطنية الوازنة وإعداد مذكرات ورسائل لقيادة الحزب والسلطة كان هدفها الأساسي هو العودة إلى جادة الصواب ووقف دوامة العنف، ثم التنديد بالأعمال الإرهابية الوحشية ورفض التدخُّل الأجنبي، ومع ذلك اضطرت السلطة لقبول لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، أفضى إلى تقرير توافقي مع مطالبته بمعالجة قضايا المفقودين والموقوفين…
ومما يأسف له صاحب المذكرات، تلك الحملة الشرسة ضده التي قادتها القوى المرتزقة والاستئصالية بدعم وإيعاز السلطة عندما صرَّح لجريدة “الشرق الوسط” بأن الحوار يمكن أن يتضمن قيادة “الفيس” آنذاك، إذ لم تستسغ السلطة هذا الطرح فوضعته في الخانة الحمراء.
ولأن البناء المؤسساتي كان هشا ولم يصمد أمام النزعة الانقلابية التي تتميز بها القوى الفاعلة في السلطة، فقد أفضت الصراعات الخفية إلى البروز علنا من خلال الحملة الإعلامية التي تولاها نور الدين بوكروح ضد الجنرال بتشين الرجل المحوري في نظام الرئيس زروال الذي فضّل رمي المنشفة وإعلان تقليص عهدته الرئاسية بتاريخ 11 سبتمبر 1998.

انتخابات مزوَّرة وانسحابٌ تاريخي
كانت قناعة الدكتور طالب أن فكرة إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة لم تنضج لدى “أصحاب القرار”، ومع ذلك فضَّل عدم تفويت الفرصة لدخول معترك رئاسيات 1999 التي أعلن عنها الرئيس زروال ليضع مساهمته وأفكاره حيّز التنفيذ لخدمة البلاد وانتشالها من مستنقع العنف والانحراف، وكان منذ البداية قد ذكر أنه يحتفظ لنفسه باتخاذ ما يراه مناسبا في حالة الانحراف نحو التزوير في العملية الانتخابية.

قرَّر إنشاء “حركة الوفاء” التي وجدت نفسها مهيكلة وطنيا ومحليا من خلال مداومات الحملة الانتخابية للرئاسيات المجهَضة، وبعد معركة قانونية وإدارية شاقة مع وزارة الداخلية لم يتم اعتماد الحركة من طرف الوزارة رغم أن القانون كان لصالحها، وكان واضحا أن الهدف من هذا الرفض هو سد الطريق أمام أحمد طالب الإبراهيمي بكارزميته وإرثه التاريخي ووزنه السياسي حتى لا يبقى منافسا للرئيس بوتفليقة في المواعيد الانتخابية القادمة.

وبمرور الوقت والشروع في التحضيرات المادية لانتخابات أفريل 1999، بدأت الأخبار تتواتر حول الاتجاه إلى دعم مرشح السلطة مرفَقة بعراقيل جمع التوقيعات لصالحه ومحاصرة مناصريه هنا وهناك، ومع ذلك واصل تحديه رفقة المرافقين الستة في مواجهة الإدارة وممارساتها التي تصبّ لصالح مرشح ما سُمِّي “الإجماع”، وقد استقبله الرئيس زروال وعرض عليه الإبراهيمي أوجه التجاوزات خلافا للخطاب الرسمي، وهو ما حمل الرئيس وقيادة الجيش على إعلان الالتزام بانتخابات نزيهة وحياد المؤسسة العسكرية مما “طمْأَن” نسبيا بعض المترشحين أمثال آيت أحمد.
ومع اقتراب الموعد والشروع في الحملة الانتخابية والتفاف جحافل بشرية عبر ربوع الوطن حول برنامج الدكتور طالب وخطابه الهادئ المتزن المقنع، ظهرت نية السلطة في دعم مرشحها بقوة لسد الطريق أمام بقية المترشحين يتقدمهم الدكتور طالب، وكانت علامات التزوير واضحة بارزة منذ بدأ التصويت في الخارج وفي المكاتب المتنقلة والمكاتب الخاصة، وهو ما أجبر المترشحين الستة وهم: أحمد طالب الإبراهيمي، مولود حمروش، عبد الله جاب الله، يوسف الخطيب، مقداد سيفي، وحسين آيت أحمد، على إعلان الانسحاب الجماعي من السِّباق عشية إجراء الانتخابات نظرا لرفض الرئيس زروال استقبالهم وتأكُّدهم أن الأمور حُسمت لصالح المترشح عبد العزيز بوتفليقة، لتكون تلك العملية تاريخية في الجزائر مجنِّبة البلاد الانزلاق من جديد إلى العنف. ومع ذلك أصيب المناصرون بإحباط كبير جراء هذه الخطوة الجريئة التي أربكت السلطة ومخابرها.
ولأن النضال دوامٌ واستمرار، فقد استخلص أحمد طالب الدروس من الحملة الانتخابية ومعاينات أرض الواقع، ليصل إلى قناعة صعبة بالانسحاب من “حزب العمر” جبهة التحرير الوطني أمام عجز قيادتها عن أداء دورها التاريخي في هذه المرحلة، وأمام التفاف المناضلين والمناصرين عبر ربوع الوطن، فقد قرَّر إنشاء “حركة الوفاء” التي وجدت نفسها مهيكلة وطنيا ومحليا من خلال مداومات الحملة الانتخابية للرئاسيات المجهَضة، وبعد معركة قانونية وإدارية شاقة مع وزارة الداخلية، لم يتم اعتماد الحركة من طرف الوزارة رغم أن القانون كان لصالحها، وكان واضحا أن الهدف من هذا الرفض هو سدّ الطريق أمام أحمد طالب الإبراهيمي بكارزميته وإرثه التاريخي ووزنه السياسي حتى لا يبقى منافسا للرئيس بوتفليقة في المواعيد الانتخابية القادمة، وكانت حجج الوزير زرهوني وزير الداخلية مضحكة مبكية عندما قال إن اعتماد حركة الوفاء هو عودة مبطَّنة للحزب “المُحلّ” جبهة الإنقاذ، وهي الذريعة التي تدحض نفسها بنفسها وتؤكد التعسُّف في عهد التعددية…
ورغم الإحباطات المتلاحقة التي أفرزتها الممارسات السلطوية من خلال التزوير الشامل والرفض المجحف لاعتماد حركة الوفاء وغيرها، فإنه لم تشغله أو تقلِّل من إرادته في المشاركة في النقاش حول المسائل الكبرى مع الاحترام الصارم للقوانين وبعيدا عن مظاهر العنف، وقد تجسَّد ذلك من خلال مختلف المشاركات والاجتماعات مع الشخصيات والتدخُّلات في الصحافة.
ويصف الإبراهيمي العهدة الأولى للرئيس بوتفليقة بالتسيير الفوضوي من خلال التخبُّط في اتخاذ القرارات وفي علاقته بالمؤسسة العسكرية ومشروعه للوئام المدني الذي أراد من خلاله كسب الشرعية التي اهتزَّت جراء الانسحاب من السباق الرئاسي وجاعلا منه مرشحا واحدا ينافس نفسه، ليعرّج على مأساة منطقة القبائل التي تفجرت في 2001 والطريقة العشوائية في معالجتها، وقد أمضى على بيانين رفقة رشيد بن يلس وعلي يحيى عبد النور حول الانتفاضة في منطقة القبائل، ليواصل مواقفه ونضاله برفض إجراء تشريعيات 2002 التي عدّها بلا مصداقية وأن الحل هو الذهاب إلى رئاسيات مسبقة، في حين كان رد السلطة عنيفا معتبرا من يعارض ذلك الاستحقاق الانتخابي بمثابة المعرقل للمسار الديمقراطي.
وكثّف الإبراهيمي جهوده من أجل التجنيد لإقامة دولة الحق والقانون، وكان ذلك بالدعوة الملحة لرفع حالة الطوارئ بمعية ثلة من المناضلين والجمعيات والمنظمات الحقوقية الوطنية، من دون أن يهمل مسألة المعتقلين السياسيين التي كان يعدّها مسألة مبدأ.

وتعود حليمة إلى عادتها القديمة
كانت العهدة الأولى للرئيس بوتفليقة فوضوية كارثية سياسيا واقتصاديا بكل المقاييس، وكان الدكتور طالب من المنادين بإجراء انتخابات رئاسية مسبقة لوقف التدهور والانسداد. ومع اقتراب نهاية العهدة الأولى، شرع الرئيس في حملة انتخابية مسبقة لرئاسيات 2002 من خلال جولات ماراطونية عبر الولايات، وتوزيع مبالغ مالية ضخمة وصفت آنذاك بالرشاوي الانتخابية، وكان الدكتور طالب يراقب ويتابع الأحداث وهو متأكد من أن النظام لن يقلع عن ممارساته في إفراغ العملية الانتخابية من مغزاها. وأمام ضغط الشارع والصحافة الملتزمة والقوى الوطنية الداعية إلى تحرير انتخابات 2004 من التزوير والتحايل، اضطر قائد الأركان الفريق العماري محمد للخروج عن صمته مؤكدا أن الجيش ليس له مرشح ولن يعود إلى ما قام به في انتخابات 1999، ومن هنا وتحت ضغط المناضلين والمناصرين أقدم الدكتور طالب على مغامرة جديدة وهو جد متحفظ من نية السلطة بتقديم ترشحه مستوفيا لكل الشروط القانونية أمام المجلس الدستوري ليُفاجَئ بتاريخ 01 مارس 2004 برفض ترشيحه بدعوى عدم حصوله على 75000 إمضاء المطلوبة، في حين أنه قدَّم أكثر من ذلك بكثير، ليتم اكتشاف الفضيحة والمهزلة عندما امتدت أيادي الليل إلى صناديق استمارات الترشح و”سرقت” عددا كبيرا منها ليتم إقصاء أقوى مترشح، ويتم تبرير ذلك تبريرا مضحكا مبكيا بالقول إن أقفال الصناديق أصابها الصدأ مما سهَّل عملية فتحها والاستيلاء على الوثائق.
نعم، كانت مهزلة بل فضيحة مدوّية أكدت أن السلطة لا ولن تقلع عن ممارساتها وعاداتها القديمة ضاربة في الصميم طموح الشعب في حياة ديمقراطية نزيهة تفرزها انتخاباتٌ حرة ذات مصداقية، واستحوذ الرئيس المترشح على عهدة ثانية في 2004 كانت أكثر فوضوية وأكثر كارثية أفضت إلى خرق الدستور من خلال نوّاب الولاء وتكريس العهدة الأبدية التي أدخلت البلاد في حكم القوى غير الدستورية بمرض الرئيس وعدم قدرته على ممارسة صلاحياته الرئاسية، لاسيما في العهدتين الثالثة والرابعة التي ندد بها الدكتور طالب في بيان صحفي مشترك رفقة بن يلس وعلي يحي عبد النور وذلك بتاريخ 10 فيفري 2014، بالإضافة إلى إجراء حوار مع الصحافة معبّرا عن موقفه الرافض بل المندد بما تمر به البلاد من وضعيات معقدة وخطيرة وقمع للمعارضة والنشطاء السياسيين، وذلك طوال سنوات العهدة الرابعة التي لم يظهر فيها الرئيس المريض إلا نادرا على كرسي متحرك.
ولأن إرادة الشعب التي هي من إرادة الله كانت أقوى، فقد انتفض الملايين عبر التراب الوطني رافضين العهدة الخامسة التي كانت عارا أن يُدفع رجل مقعَد إلى عهدة جديدة أمام استغراب العالم واستهزائه، وقد وجد الدكتور طالب نفسه مرة أخرى مجبرا على قول كلمته المسانِدة للحراك السلمي الذي أبهر العالم كله، وكانت البداية في 22 فيفري 2019 واضطرت قيادة الجيش للانضمام إليها ومطالبتها بتطبيق المادة 102 من الدستور، وتم إجبار الرئيس المريض على تقديم استقالته في 2 أفريل 2019، والتبعات معروفة.

 كانت مهزلة بل فضيحة مدوّية أكدت أن السلطة لا ولن تقلع عن ممارساتها وعاداتها القديمة ضاربة في الصميم طموح الشعب في حياة ديمقراطية نزيهة تفرزتها انتخابات حرة ذات مصداقية، واستحوذ الرئيس المترشح على عهدة ثانية في 2004 كانت أكثر فوضوية وأكثر كارثية أفضت إلى خرق الدستور من خلال نواب الولاء وتكريس العهدة الأبدية التي أدخلت البلاد في حكم القوى غير الدستورية بمرض الرئيس وعدم قدرته على ممارسة صلاحياته الرئاسية.

كان الدكتور طالب من الداعين إلى مرحلة انتقالية تسيِّرها هيئة مختارة تتولى تهيئة الجو والمناخ الملائم لانتخابات ديمقراطية، ولكن قيادة الجيش ضغطت لاعتماد الحل الدستوري الذي أفضى إلى انتخابات 12 ديسمبر 2019 التي أعطت الأفضلية للسيد عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية في عهد جديد سماه “الجزائر الجديدة”. نتمنى له التوفيق وللجزائر الحبيبة السؤدد.
وأنهى الدكتور طالب مذكّراته في جزئها الرابع والأخير بإبراز الوجه الآخر لمساره ألا وهو البعد الثقافي والفكري إذ لم تُبعده سنوات السياسة ونضالاتها ومواقفها عن اهتماماته الفكرية الثقافية، إذ يقوم بجملة من النشاطات الثقافية داخل الوطن وخارجه من خلال المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمداخلات والشهادات التي كانت مرجعا للباحثين والمهتمين بقضايا الفكر والثقافة بالجزائر وعبر عديد الحواضر العالمية، وهي طبعا مستمدة من تشبُّعه بالمرجعية الوطنية في أبعادها الأمازيغية والعربية والإسلامية، وكذلك من الروح النضالية المستميتة في مساندة قضايا التحرر والحوار والديمقراطية التي كانت حجر الزاوية في نضاله السياسي طوال عقود طويلة من عمره، أطال الله له فيه.
وقد وثق ذلك من خلال عدة ملحقات مرفَقة بهذا العمل القيّم الذي يعدُّ وثيقة تاريخية مميزة محايدة وجادة تزيل الضباب عن الأحداث وتكشف الحقائق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!