-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

موسم الإبحار أو “الحرڤة” نحو غزة

موسم الإبحار أو “الحرڤة” نحو غزة

كان بعض الصغار منا، يلقون بأجسادهم الغضة، في البحر، على قوارب صيد، ذات ألواح ودسر، غير مبالين، بحيتان البحر وأمواجه. كانوا يحملون الإحباط، واليأس، والقنوط، في نفوسهم، وعقولهم، وقلوبهم، فرارا من ظلم، وخوف، وبطش الشاطئ الشرقي، وطلبا للشاطئ الغربي من البحر الأبيض المتوسط، الذين يحلمون فيه، بأمن مفقود، وعمل موعود، و”أورو” موجود.

ثم تطورت الأوضاع، فصار بعض الكبار منا، ومن غيرنا من البلدان الأخرى، وهم ذوو أطياف، وإيديولوجيات مختلفة، فيهم السياسيون، والعلماء، والمثقفون، والبرلمانيون، والفنانون، والإنسانيون بوجه عام، صاروا يلقون -في البحر- بأثقالهم، وعتادهم، وبواخرهم، متحدّين الطرادات، والمطاردات، والعابرات من البواخر والطائرات، ميممين شطر غزة المحاصرة الجريحة، في قافلة تضامن إنسانية صريحة.

إنه موكب فريد من نوعه، يجسد معاني الحرية بكل أبعادها، ويترجم التنوع الفكري، داخل الوحدة الإنسانية، يحمل أصحابه السلام، والأمل، والطيب من القول والعمل، إلى عروس المدائن، بعد القدس، غزة الجهاد، والاستشهاد، وصيغة منتهى العلل.

غير أن أعداء الإنسانية والسلام من العنصريين الصهاينة، أبوا إلا أن يحوّلوا قافلة الحرية والسلام، إلى قافلة شهداء ومصابين، يسقون بدمائهم، شجرة السلام الفلسطينية. وبذلك تحول شاطئ غزة إلى مأوى ذئاب كدرت صفو الحياة، وسممت شرايين الحياة.

مرحى! مرحى! إذن لبداية صحو الضمير، وبزوغ خيوط الفجر المنير، على هضاب وسفوح القطاع الملبد بغيوم الاحتلال الغاشم الحقير. الآن! والآن فقط! أدركت بعض النخب عندنا، وعند غيرنا، أن طريق غزة، المزروع، برا وبحرا، بالألغام، وحشود أعداء السلام، لن يتم الوصول إليه، وتجاوز الحواجز التي ركزت حواليه، إلا بالتحدي والإرادة، وتنظيم مواكب الحرية، وطالبي الشهادة. وعلى حد تعبير أمير الشعراء أحمد شوقي:

وللحرية الحمراء باب               بكل يد، مضرجة، تدق

إن قافلة أسطول الحرية، وهي تمخر ببواخرها عباب البحر، وتصطدم بتصدي جيش الاحتلال، إنما ترسم للمستضعفين، في كل بلاد العالم، طريق الخلاص، وتعلمهم بأن الانتصار على الأقوياء المستبدين، لا يتم إلا باتحاد الضعفاء العازمين. إنه درس للأمم المتحدة على الظلم، على نصرة الاحتلال، كي تفقه هذه العصبة، أن مقياس القوة لم تعد تصنعه الدول، وإنما بات من صنع الشعوب، لا سيما الشعوب التي تعاني القهر، والحصار، وظلم الإنسان الغني، لأخيه الإنسان الفقير.

إن قافلة أسطول الحرية المبحرة إلى غزة، تلقي اليوم درسها المكتوب بالدماء، على أصحاب بعض القصور-عندنا- المتكئين فيها على الأرائك، لا يمسهم فيها شمس ولا زمهرين، درس إلى هؤلاء، كي يخرجوا من قصورهم، ويلتحموا بجماهير شعوبهم، فيأخذوا بأيديهم، في قيادة وطنية، واعية، سليمة، إلى حيث الخلاص.

فقد كشف رواد أسطول الحرية، أن إسرائيل، هي صانعة المأساة الإنسانية في فلسطين، وأنها نمر من ورق، وكدليل على ذلك، مشهد الجندي الصهيوني العلج، وهو يمسك بيد طفل الحجارة الفلسطيني، ذي الست سنوات، ويزج به في السجن، إنه مشهد ينذر، بأن المستقبل الفلسطيني بات مؤكدا، مهما طال ليل المعاناة، وما سفك من دماء الأباة، ولا نامت أعين الجبناء!

لقد كان فدائيو القضية الإنسانية، السابحون في بحر الحرية ضد كل أمواج الصهاينة العنصرية الأعداء، يدركون، أن المعركة مع العدو الصهيوني، ستكون شرسة على أكثر من صعيد، ولكن العاقبة -في النهاية- ستكون لذوي الحقوق، وأصحاب الأرض، والذائدين عن العرض والفرض، أما النبات الخبيث النكد، الذي زرع في أرض فلسطين، فإنه نبت لا يثبت، مهما غذي بالدولار، وغلف بالأعذار، وغطي بالأستار، ودُعم بالقرار.

إن الحصار المفروض على غزة، وعلى القدس، وعلى كامل التراب الفلسطيني، هو كما قال عنه صانع الملحمة الغزاوية إسماعيل هنية، حصار فرض بقرار دولي سياسي ظالم، ولذلك وجب كسره بقرار دولي، شعبي، عادل.

وبداية كسر هذا الحصار، بدأ، مع دب شريان الحياة، في قافلة الحرية، التي حملت إلى غزة، رمز مقاومة الشعب الفلسطيني، حاملة إليه رموز الماء والغذاء، والهواء، فلكم هو في حاجة إلى الماء العذب الصافي، كما ينبع من جبال وينابيع بلاد العرب، ومن جبال وينابيع أوروبا، الخالي من كل تلوث صهيوني إيديولوجي، ومن كل سم فكرولوجي. وكم يحتاج شعب غزة إلى الغذاء المتنوع الفيتامينات، فيتامين التضامن، وفيتامين الإنسانية، وفيتامين الحرية، إنه غذاء مصفى من كل أنواع التجسس الخبيث، والتحسس المقيت، حلال، طيب، مصدره طيب، ومنبعه حلال. وأما الهواء، الذي يحمله أسطول الحرية، فهو أكسير الحياة، وأوكسجين الأباة، وما أحوج الإنسان العربي اليوم، والفلسطيني على الخصوص، إلى تنفس الهواء الصافي الذي يملأ الرئة، حياة وحيوية، فيضخ الجسم بالمزيد من العزيمة، والإرادة، ليكسب الطاقة والقدرة على سلوك درب التحدي والشهادة، ومواجهة أساليب الإذلال والإبادة.

بشراك يا غزة! فالنصر ظهرت أعلامه، وبحرك بانت شطآنه، ووفد الحرية ظهر إنسانه… ولك في إنسانية النصر والبحر معاني يجب أن يستخلصها الجميع، وخاصة أبناء فلسطين من خلال تجربة غزة الدموية، وما حوته من شهداء وضحايا، كتبوا بدمائهم، مرحلة التحول المصيري في القضية، الذي سيضيء أكثر، طريق رفع الحصار على غزة، وتحرير فلسطين من ربقة أشنع احتلال في منطقة الشرق الأوسط.

ماذا يمكن استخلاصه من تحدي العدو الصهيوني للإنسانية المسالمة قاطبة؟

هناك مجموعة من المعاني، يمكن تسجيلها في هذا المستوى من التحول، وأهمها:

1 –  اتساع الخندق المناهض للاحتلال الصهيوني في فلسطين. فبعد أن كان المعسكر يقتصر على بعض الناشطين من حماة قضايا الحرية، اتسع هذا المعسكر -بسبب عدوان إسرائيل على أسطول الحرية- فشمل الصعيد السياسي الرسمي، وتم استدعاء سفراء دول كثيرة في ما يسمى بدولة إسرائيل، مثل تركيا، والأردن، ومصر، واليونان، وإسبانيا، والسويد. وهو ما يمثل ضربة سياسية موجعة للصهاينة.

2 – أن هذه القافلة التضامنية مع غزة، هي التاسعة من نوعها، وضمت أكثر من 750 مشاركا، وتشارك فيها الجزائر لأول رة، بباخرة محملة بالمواد الغذائية، يقودها عشرة نواب، وهو درس آخر تقدمه الجزائر للعالم، من توضيح موقفها الثابت من القضية الفلسطينية.

بقي على الجزائر، في ضوء الصمت المتواطئ من جانب دعاة بناء عالم متوسطي، وعدم التنديد بالعدوان الصهيوني الذي وقع على أسطول الحرية، بقي أن تعلن الجزائر موقفها السياسي الواضح، من محاولة إقامة كيان سياسي متوسطي، يكون العدو الصهيوني عضوا فيه.

3 – إن في تنظيم هذا الموكب الإنساني الذي رفرفت عليه أعلام الحرية، وانطوت تحت لوائه، أطياف فكرية وثقافية، وسياسية، من كل أنحاء العالم، قد أفشل سياسة الدولار الأمريكي، والأورو الأوروبي، والشيكل الصهيوني.

4 – إن انضمام بعض العرب إلى القافلة التضامنية، ممثلا في الجزائر والكويت لهو مؤشر آخر، على بداية الصحوة، صحوة الضمير العربي من الغفوة، للانطلاق إلى موكب الحياة، وويل لمن لم يعانقه شوق الحياة.

5 –  إن ما أصاب هذه الهبّة التضامنية الإنسانية يجب أن لا يسقط من أيدينا الحجارة المساندة، والقنبلة الذائدة، والمقاومة الرائدة.

 6 – إن مظهر التضامن الإنساني مع شعب غزة، يجب أن يلقنه شعورا بواجب آخر، وهو العمل على جمع الشتات الفلسطيني، ووحدة صف المقاومة، وتوحيد الشعب الفلسطيني، بعد تصفية صفوفه من الدخلاء، والعملاء، ليكون الفلسطينيون صفا لا صدع فيه، فيفرضوا كلمتهم على القريب والبعيد.

وبعد، فهذه هي القضية الفلسطينية، تكسب نصرا عالميا آخر، وأيا كانت التضحيات، وأيا كانت التحديات، فستتلوها انتصارات أخرى إن شاء الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!