-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مُعلّمُ المدرسةِ الابتدائية

لمباركية نوّار
  • 12143
  • 0
مُعلّمُ المدرسةِ الابتدائية

من منا لا يسوقه الحنين الفياض، ولا يحدوه نزوع التعلق بالماضي، ولا تحدثه لهفة الأشواق عن استرجاع ذكريات المدرسة الابتدائية بين الحين والآخر رغم طول المدى وبُعد الزمان، وتقليب صفحاتها والنظر فيها بولع ووَلًهٍ، ففي مصنّف الصوّر المندس في تلافيف ومضمومات الذاكرة القديمة، يجد الإنسان ما يعيد إلى نفسه إحساسا عذبا يثير في نفسه شهية الاستئناس بماضيه البعيد بكل ما فيه من براءة خالصة وعفوية ناصعة ولدت من رحم التلقائية.

لا أحد تغيب عنه صورة معلّم المدرسة الابتدائية الذي فتح أمام عينيه باب نور العلم لأول مرة، وأمسك بيديه الطريتين، وأخذ بهما حتى يضعه على طريق الرضاعة من لُباء المعرفة الزلال، والكرع من مناهلها المغذية. وأعانه على نطق ورسم الحروف الهجائية على السبورة وعلى ورق الكراس، ووقف إلى جانبه يقوّم أخطاءه وغلطاته، ويصحح لسانه من كل تلفظ فيه التواء، ويصوّب كتابته من كل اعوجاج.

يجني المتعلم فوائد أخرى إضافية من معلمه، ويستفيد ويتأثر من جانبه التربوي أكثر مما يغرف من معينه العلمي ووعائه المعرفي. لأن الفضائل التربوية مجسدة في السلوك اليومي الممارس أمامه في اللباس وطريقة الكلام وأسلوب المعاملة والمخاطبة وفي الجد والاستقامة والمحافظة على الوقت والصدق والتضحية والفداء. وتنشأ في كنف هذا التجاوب اليومي علاقة غير مرئية بين المتعلم ومؤدبه يعبّر عنها بـ:”الأبوة الروحية” التي تكمل الأبوة البيولوجية.

كم من متعلم في تلك المرحلة لو سُئل عن اختيار مستقبله، لأجاب بلا تفكير: أريد أن أصبح معلّما!. وما كان له أن يقول ذلك لو لم يكن معلّمه هو مثله الأعلى وقدوته وأسوته الذي لا يعرف له مثيلا أو نظيرا. ولا نستغرب إن عرفنا أن معظم الناجحين الذين توّلوا مناصب وثيرة، وحتى أولئك الذين تصدّروا الزعامات وجلسوا على كراسي القيادات، قد مارسوا التعليم إشباعا لمنادي رغبة داخلية متأججة ظلت تسكنهم منذ زمن تعليمهم الأول.

يقولون: (الطفل كالورقة البيضاء تكتب عليها ما تشاء)، وأضيف: (وهو عجينة لينة مطاوعة بين يدي عاجنها). وأول من يبدأ الكتابة على هذه الورقة ودلكَ هذه العجينة وتشكيلَها هو معلم المدرسة الابتدائية، فهو صاحب دور الانطلاقة في توجيه الطفل وترشيده خارج البيت، ودعكه وعجنه ورسم ملامح شخصيته. وأما ما يقدمه له معلموه وأساتذته في مراحل تعليمه اللاحقة، فلا تعدو أن تكون مجرد لمسات تحسينية وإضافات ترقيعية وممارسات تصويبية تفيد في تعديل سلوكه وشذب ما لصق بها من عوالق ومفسدات.

ليست المَهمّة الموكلة إلى معلّم المدرسة الابتدائية بالسهلة والواقعة في متناول كل الأيدي، ولذا وجب اختيار من تسند إليهم هذه المهمة الطاهرة لتجنب الضياع والخسارة، فهو من يعمل على صناعة مستقبل الوطن الذي توجد بذرته الجنينية في أقسام المدارس، وهو من يهيئ رجال هذا المستقبل الزاحف ونساءه، ويؤهلهم للعيش فيه في هناء واستقرار، ويزودهم بما يساعدهم على حل المشكلات التي تواجههم في حياتهم بسرعة وبأقل التكاليف وبأخف جهد. ولا يمكن أن نفهم أقوال المربين العالميين الكبار التي تلفظوا بها في حق المعلم إلا في هذا الإطار، ومنها قول المربي الفرنسي وصاحب العقد الاجتماعي جان جاك روسو الذي ضمّنه في العبارة الموالية: (الحق، إن الذي يصنع الرجال يجب أن يكون أكثر من رجل. أيمكن، حقا، العثور على المربي، هذا المخلوق النادر الوجود؟)، وقول رجل السياسة بسمارك بعد هزيمة بلده ألمانيا في إحدى الحروب التي خاضتها: (لقد غلبت جارتنا بمعلم المدرسة).

إن عمل معلم المدرسة الابتدائية هو القاعدة والأساس الذي يُبنى عليه تكوين الطفل، فإذا كان هذا الأساس مستقيما ومتينا وصلبا، فإن البناء يذهب مخترقا أجواء السموق والعلو من غير أن يصيبه تصدع أو شقوق، ويصمد أمام الرياح العاتية واهتزازات الحياة. وأما إن كان هشا ورخوا، فلن يذهب طوله في الارتفاع إلا قليلا، ولا يلبث أن ينهدّ وينهار كأنه شُيِّد على رمل منزلق. وإن الكسر الذي يصيب المتعلم في المرحلة الابتدائية لا يجبره معلم الإعدادي أو الثانوي، وحينئذ يكون كالغصن الذي نما في التواء والتفاف، وصدق الشاعر أحمد شوقي الذي ضم البيت الشعري الموالي إلى قصيدته المعروفة عن المعلم:

وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة   جاءت على يده البصائر حولا

يكافح معلم المدرسة الابتدائية كفاح المتجلد الصابر الذي لا يشكو ولا يتأوه. ومن غيره يقوى على تحمل صخب وضوضاء وشكاوى وهرج ومرج فصيلة كاملة من الصبيان لا يتفقون على رأي، ولا يتوقفون عن المشاكسات وزرع الشغب والفوضى في أرجاء القسم؟. وإذا كان الأولياء يُظهرون ضجرهم بسرعة أمام طفلين أو ثلاثة، ويعجزون عن تهدئتهم، فما طبيعة القلب الذي يحمله المعلم في صدره لما يقف في قسمه أمام أضعاف أضعاف هذا العدد؟. وهو من يقبل تدريس عدة مواد من أدبية وعلمية وتنشيطية، ويقضي أوقاتا في تحضير دروسه أو تجديدها إن سبق له تقديمها، ولا يجد في القسم فرصة للجلوس والاستراحة، فهو في ذهاب وجيئة دائمين بين الصفوف. وأما بعد انتهاء الدوام، فتنتظره مطالب متابعة أعمال متعلميه وتقويم إنتاجاتهم التي سجّلوها على دفاترهم، وفحصها كلمة من بعد كلمة، وحرفا إثر حرف كمن يفرز حبات القمح عن حصيات الرمل الأصفر.

إن معلم المدرسة الابتدائية هو أول من يحضر إلى القسم وآخر من يغادره، وهو من يشرف بنفسه على تهيئة البيئة الفصلية بالترتيب والتزيين حتى تكون مشجعة على التعلم، وهو من يوقد النار في المدفأة بعد أن يملأ جوفها بالحطب أو الفحم، ويضع عليها دلوا معدنيا من الماء لكي يسهم بخاره المتصاعد والمنتشر في تلطيف جو الحجرة، ويساعد متعلميه على نزع معاطفهم الخشنة عند المجيء في الأيام الباردة والمطيرة وعلى ارتدائها عند المغادرة، وهو من يودعهم أمام باب المدرسة، وهو من يسعفهم بالمعالجة اليومية إذا انتشرت الأوبئة في وسطهم كالأمراض الجلدية ورمد العيون والصدفية وسقوط الشعر، ويتولى تضميد جروحهم المتقيحة والنازفة. وإما إذا جاءت مواعيد حملات التطعيم في المدارس، فتجده واقفا بين الأطباء والممرضين حتى يكون لهم عونا على تشجيع التلاميذ لتحمل ألم وخزة ريشة الفصد. وإذا جاءت الرحلات المدرسية، فإن المعلم هو من يتقدم الصفوف مرافِقا ومتابعا وحاميا ومنافحا عن كل واحد من تلاميذه، ولا يهدأ له بالٌ إلا بعد العودة. إن المعلم الذي يحني ظهره لتحمل كل هذه المتاعب هو من يحق له أن يرتقي إلى رتبة المربي.

يرضى معلم المدرسة الابتدائية بالاشتغال بعيدا عن مقر إقامته، ولا يعارض. وهو الوحيد من أهل التربية الذي يقبل العمل في المناطق النائية، والذهاب إلى الأرياف المعزولة ولو على ظهر حمار أو أتان، والتنقل إلى الجبال البعيدة راضيا بصعود تلالها ونزول وديانها والمجازفة بالسير في فجاجها. وهو من يرحل إلى الأماكن الصحراوية مُعارِكا كثابين الرمال ومعرّضا نفسه إلى غضباتها المتكررة.

إن معلم المدرسة الابتدائية هو أول من يؤتمن على أغلى ما يملكه الوطن، وهو عقول صغاره، فيتسلمها وديعة، ويرعاها بالتربية والصقل والتهذيب. ويشرع في نقل تراث الأمة إليها في وفاء، ويعلّمها القيم النبيلة المستمدة من قيّم الأمة، ولا يغفل عن توفير روح التنافس بين متعلميه لتشربها.

يجني المتعلم فوائد أخرى إضافية من معلمه، ويستفيد ويتأثر من جانبه التربوي أكثر مما يغرف من معينه العلمي ووعائه المعرفي. لأن الفضائل التربوية مجسدة في السلوك اليومي الممارس أمامه في اللباس وطريقة الكلام وأسلوب المعاملة والمخاطبة وفي الجد والاستقامة والمحافظة على الوقت والصدق والتضحية والفداء. وتنشأ في كنف هذا التجاوب اليومي علاقة غير مرئية بين المتعلم ومؤدبه يعبّر عنها بـ:”الأبوة الروحية” التي تكمل الأبوة البيولوجية.

يقول المربي الكبير وفقيه الأدباء وأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله: (أقول لكم الحق، لقد وجدت أنه ليس أبرك ولا أنفع للناس ولا أجمع للثواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية).

منذ سنوات أدبرت، أقام مجموعة من المتعلمين حفلا تكريميا لواحد من معلميهم الذين درّسوهم في المدرسة الابتدائية، ووقف أحد المتعلمين متحدثا في الحاضرين، ومما قال: (عن أيِّ مزية من مزايا معلمنا أحدِّثكم؟. أأحدٍّثكم عن صرامته.. عن انضباطه.. عن اجتهاده.. عن احترامه للوقت.. عن أناقته.. عن أخلاقه.. عن عدله.. عن بذله.. عن تضحياته.. عن كفاءته، ونحن في عهد الكفاءات؟.

إبحثوا في القواميس عن أجود الكلمات والعبارات، وفتشوا عن أرقِّ الصفات وأصدق النعوت، وأجمعوها كحبَّات العقد الزمردي، فإن معلمنا في نظرنا يزيد ويسمو ويعلو عليها كلها في سياق النسبي البشري، فطففوا له في الميزان استفاءً ورُجحانا، ولا نعتقد أن ثمة من يناهض أو يعارض.

يا معلمنا الكريم، إننا نستحضر دوما همّتك وشيمك وقيمك الإنسانية والتربوية، ولا تتوقف أطياف دروسك الغالية والمفيدة عن زيارتنا.. درس القراءة.. ودرس الحساب.. ودرس المحفوظات.. ودرس القواعد.. ودرس الإملاء. إنها دروسٌ محفوظة، لن تبلى، ولن تُنسى. إنها قطع من النور الدري الذي أنار أمام أقدامنا بداية الطريق.

يا معلمنا الأمجد، لقد كنت في حياتنا نسمة ربيع صباحية منعشة، وكنت قطرات غيث سقت البذور الكامنة في عقولنا ونفوسنا، وكنت ملهمنا الذي فجَّر فينا طاقة الحياة. وبفضل خدماتك التي نراها جليلة، وقد يراها بعضُنا ضئيلة، تمكننا من شق الدروب والسير في دهاليز الحياة بثقة وأمان).

نسيت أن أقول لكم، في البداية، أنني أتحدث عن معلّم الأمس الذي يستحق أن يوضع على صدره وسام المربي الذهبي. أما معلم اليوم، فهو ضائع الجهد ومشتت الفكر بين خوارم الدروس اللصوصية و”النضال” النقابي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!