الرأي

نحناح.. رجلُ الوسطية والعقلانية السياسية

محمد بوالروايح
  • 2078
  • 9
أرشيف
محفوظ نحناح

صدق من قال: “لكل مرحلة رجالُها”، ولكن هناك رجالا يصلحون لكل مرحلة بفضل أفكارهم النيِّرة التي تنتقل من جيل إلى جيل متجاوزة حدود الزمان والمكان، ومن هؤلاء الرجال -ولا أزكي على الله أحدا- الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، الداعية والسياسي المخضرم الذي عاصر مرحلتين: مرحلة الثورة وما تحمله من رمزية وقدسية في نفوس كل الجزائريين، ومرحلة الاستقلال وما تخللها من سنوات عجاف وعشرية سوداء تركت جراحات عميقة في المخيال والواقع الجزائري. لقد كانت للشيخ نحناح رحمه الله مهابة خاصة لدى محبيه ومبغضيه على حد سواء، لقد عُرف الرجل بفكره الدعوي الوسطي وخطابه السياسي العقلاني فكان بحق “رجل الوسطية والعقلانية السياسية”.

لقد تعرَّض الشيخ نحناح رحمه الله لحملة مسمومة، إذ وصفه البعض بالداعية والسياسي المتحوِّل والمتجوِّل الذي يدور مع السلطة حيث تدور، يشد عضدها ويلتمس لها الأعذار، ويرفع خسيستها ويقيل عثراتها وسقطاتها، ووصفه آخرون بأنه الداعية والسياسي المُهادن الذي يفضِّل التنازل عن بعض مبادئه السياسية من أجل ضمان بقاء حزبه وبقائه آمنا في سربه. لقد تعرض الشيخ نحناح رحمه الله لسيل من الاتهامات، ولكنه واجهها بقلبٍ واثق وعزم صادق، لأنه كان يعلم بأن هؤلاء يخوضون حربا بالوكالة وبأنهم أشبه بالدمى التي تحرِّكها أياد خفية تعمل من وراء حجاب ولا تحسن إلا “ثقافة السباب” يعينهم على ذلك ذباب إلكتروني يتصرف على طريقة “رمتني بدائها وانسلّت”.

قرأت كتاب الشيخ محفوظ نحناح “الجزائر المنشودة، المعادلة المفقودة: الإسلام، الوطنية، الديمقراطية”، فوجدت أن منهجه الدعوي والسياسي يقوم على ثلاثة أسس رئيسة: أولها المنهج الإسلامي الوسطي الذي يرفض العنف والتطرُّف ويجدد في الأمة مناهج الإصلاح النفسي والاجتماعي التي سنها الإسلام وسار على هداها سلف هذه الأمة وخلفها، ولعل أقرب هذه المناهج الإصلاحية زمانيا، منهج الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي تجده متجسدا ومتجددا في الخطاب الدعوي للشيخ محفوظ نحناح رحمه الله.

وثاني هذه الأسس العقلانية السياسية التي تعني ممارسة السياسة بعقلانية ظاهرة لا بمكيافيلية سافرة، العقلانية السياسية التي لا يكون لها معنى إلا إذا اتخذت من المرجعية الدينية والوطنية معلما تهتدي به وتبدأ منه وتنتهي إليه.

وثالث هذه الأسس الديمقراطية المعدّلة والمعتدلة التي لا تُؤخذ على علاتها ولكن تُصنع وتطوَّع بما يوافق سياستنا الشرعية القائمة على مبدأ الشورى الذي لا يوجد له نظيرٌ في التشريعات الدينية والدساتير الوضعية، ديمقراطية شورية سماها الشيخ نحناح رحمه الله -على طريقته المعهودة في نحت بعض المصطلحات السياسية- “الشورقراطية”، وأقتبس هنا ما كتب قبل سنوات في موقع حركة مجتمع السلم “حمس” في ذكرى وفاة الشيخ نحناح رحمه الله بأن من معالم منهجه الدعوي والسياسي: “التوفيق بين الإسلام والوطنية والديمقراطية، ويدل عليه اعتماده على بيان أول نوفمبر (لاسيما البند الأول) كمرجعية وطنية وإلحاحه على الالتزام به. وكذا إبداعه المشهور في نحت مصطلح “الشورقراطية” وما يحمله من معنى ودعوته إلى إنشاء “كومندوس إسلامي وطني” لحماية الوطن ومن ثم حماية الدولة والديمقراطية والتعددية”.

تابعت قبل سنوات نقاشا سياسيا في برنامج “الاتجاه المعاكس” للإعلامي السوري “فيصل القاسم”، جمع الشيخ نحناح رحمه الله عن “حركة المجتمع الإسلامي” آنذاك، وعبد العزيز بلخادم، وقد كان موضوع النقاش حول “الأزمة الأمنية” في الجزائر، ومما استوقفني ولفت نظري الخطاب السياسي العقلاني والحوار الهادئ للشيخ نحناح رحمه الله في وقت مضطرب متقلب على أكثر من صعيد، وهو الخطاب الذي لم يشذ عنه عبد العزيز بلخادم، فقد كان هناك احترامٌ متبادل بين الرجلين، لم تفسده مداخلة “العربي زيتوت” المعروف براديكاليته السياسية التي لا ترى في الآخر إلا مذنبا بحق، خاطئا بالمطلق، ومما قاله الشيخ محفوظ نحناح ردا على زيتوت الذي تجاوز كل حدود اللباقة السياسية “.. نحن نعمل على تطويق الأزمة بالكلمة الطيبة وبالآية الكريمة: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”. حتى وإن كان بيننا وبين النصارى واليهود خصومة عميقة ولم نتمكن من الوصول إلى حل “لكم دينكم ولي دين”، “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن” فكيف نقمع أهل الإيمان وأهل القبلة؟ لأنْ أكون بوقا للجزائر العربية المسلمة خير من أكون بوقا للقتل والتدمير ومنع العمل الديمقراطي والحفاظ على الثوابت الوطنية”.

يفتقد العمل السياسي الراهن –مع بعض الاستثناءات المحدودة- إلى عنصر مهم هو العقلانية السياسية، وقد تحقق هذا العنصر في الخطاب الدعوي والسياسي للشيخ نحناح رحمه الله. إن العقلانية السياسية عند الشيخ نحناح رحمه الله أكبر من أن نختزلها في توفّر العقل السياسي، فكم من عقولٍ سياسية ملمَّة بقضايا وخبايا السياسة فشلت في مشاريعها السياسية، وأقحمت مجتمعاتِها في خصومات سياسية تحوَّلت بمرور الوقت إلى مواجهات وصراعات دامية. إن من مقتضيات العقلانية السياسية وضع العقل في خدمة السياسة بحيث يكون متعاطوها أكثر قابلية للحوار وأكثر قبولا للآخر واستعدادا للتنازل من أجل المصلحة العامة المشتركة، وقد أخذ الشيخ نحناح رحمه الله من كل هذا بقسط وافر.

تابعت كثيرا من خطابات الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله فلم ألمح فيها -حتى في أحرج المراحل السياسية- دعوة إلى تقويض ركائز البناء الوطني التي تجمع كل الجزائريين على اختلاف قناعاتهم وانتماءاتهم السياسية. لقد حافظ الشيخ نحناح رحمه الله على عقلانيته السياسية حتى وهو يتعرّض لسيل من السِّباب السياسي من قبل بعض أشباه السياسيين الذين لا تمثل السياسة بالنسبة لهم إلا وسيلة لتحقيق مصلحة آنية أو كسب معركة انتخابية.

من مقتضيات العقلانية السياسية في الفكر الدعوي والسياسي للشيخ نحناح رحمه الله مواجهة الخطاب التكفيري الذي تمارسه أوساط دينية تسيِّس الدين وتجعل من الوطن عدوا مبينا. لقد تجلت هذه العقلانية السياسية في أبعد معانيها في الخطاب الدعوي والسياسي للشيخ نحناح رحمه الله، الذي كان يشدِّد في خطاباته على مسلَّمة أن القيم الإسلامية والوطنية ينبغي أن تبقى وعاءً للمِّ الشمل وتوحيد الصف وهذا في مواجهة الغلوِّ الدعوي والتهوُّر السياسي اللذين احترفه بعض تجار الدين وأدعياء السياسة الذين ليس بينهم وبين الدين والسياسة نسبٌ ولا يتصلون بهما بنسب.

أقول في الأخير، لقد حلت ذكرى وفاة الشيخ نحناح رحمه الله والجزائر تعاني وضعا صعبا على الصعيد السياسي لا مخرج منه إلا بالاستفادة من تجارب هذا الرجل الذي نجح وكثير من الخيِّرين والغيورين على دينهم ووطنهم في امتحان الوسطية والوطنية والديمقراطية.

رحم الله الشيخ نحناح وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن الجزائر خير الجزائر “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا”. وصلى الله على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.

مقالات ذات صلة