الرأي

نُوّاب “البَشر” وتماثيل “الحَجَر”!

محمد حمادي
  • 1424
  • 6

النقاشات التي صاحبت مطلب تلك البرلمانية، القاضي بزحزحة تمثال عين الفوارة من مكانه بوسط مدينة سطيف وتحويله إلى المتحف، أظهرت حجم “الانفصام في الشخصية” الذي أصاب مكونات المجتمع، التي هالها مشهد “سيّدة عارية”، نحتتها أنامل فنان تشكيلي إيطالي قبل نحو قرن وعشرين سنة، وبقت معلما سياحيا يقصده الزوّار من كلّ حدب وصوب؛ فصدحت الأصوات المدافعة عن القيم الدينية والأخلاقية، رافضة لتماثيل من الحجر ولم يصدمها ما يقترفه البشر من منكرات فوق هذه الأرض الطيّبة، التي عمّ فيها الفساد البرّ والبحر، من فرط جرائم القتل والاختطاف المروعة، وأعمال اللصوصية والرشوة وسائر صنوف الفساد الأخلاقي، التي سرقت الطمأنينة والسّكينة من مُواطني هذا البلد!
مرّة أخرى تعود التماثيل الحجرية لتصنع الجدل مجدّدا، وتفجر موجة من التعليقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي تدعو إلى السّخرية والتندّر، في بلد امتلك ناصية التكنولوجيا وبلغ مستويات عليا في معدلات الدخل الفردي، تتيح لمواطنيه التمتع بحياة هنيئة وكريمة، حتى نافس السويّد في رفاهية شعبه، وأصبح يضرب به المثل في الخدمات الطبية لدرجة أن أطباءه احتجوا مثل نظرائهم في كندا لخفض مرتباتهم. الجزائر أضحت محسودة من قبل مواطني دول متطورة، من فرط حياة “الفخفخة” التي يتمتع بها شعبها؛ فمدنها تنافس “سيدني” و”جنيف” و”برشلونة” من حيث استقطاب السيّاح، وطائراتها وقطاراتها وبواخرها تهدي المسافرين راحة لا مثيل لها.
وفقا لهذا الطّرح المثالي، فإنّنا نهضنا من سباتنا وحققنا إقلاعا اقتصاديا وسياحيا، حتّى أصبحنا نتسيّد التصنيفات العالمية في كلّ المجالات بعد ما كنّا في ذيل الترتيب، ولم تبق إلا التماثيل “العارية” تخدش حياءنا وتقف حجر عثرة أمام تطورنا ورقينا الاجتماعي والحضاري والإنساني!
وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، الذي فجّر موجة من الجدل عبر “الفضاء الأزرق”، على خلفية رده على نائب برلمانية دعت إلى نقل تمثال المرأة العارية بعين الفوارة من وسط مدينة سطيف إلى المتحف، بدا على محيّاه الغضب وهو يخاطب النّائب تحت قبّة زيغود يوسف، حتى أنّه انفلتت من قاموسه، وهو الأديب والشّاعر، بعض العبارات البعيدة عن اللباقة، عندما قال: “لا تقحموا الدين في الثقافة، وتمثال عين الفوارة لن يزحزحه أحد.. إن المطالبين بهذا هم من يجب نقلهم إلى المتاحف”.
لكن لماذا في كل مرّة ينحرف قطار النقاشات الجادة عن سكته الحقيقة؟ لماذا نغرق دائما في الشعبوية التي صرفت اهتمامنا عن القضايا الجوهرية التي تشكل الصّالح العام؟
من الذي يخدش الحياء العام؟ تمثال سيّدة من الحجر؟ أم بني البشر الذين يقترفون جميع المنكرات ما ظهر منها وما بطن؟ ألا تكتظ دور الطفولة المسعفة بالآلاف من ضحايا العلاقات المحرّمة؟ ألم يعد ارتداء الألبسة الفاضحة والسكر العلني وتعاطي المخدرات وممارسة الرذيلة يحدث نهارا جهارا أمام أعين الناس؟
هل أصبح تطورّنا رهينة نقل تماثيل من الحجر إلى المتاحف؟ هل بهذا المنطق نبني شعبا طيّب الأعراق؟
مثل هذه النقاشات التي طبعتها الكرنفالية واصطبغت بألوان الشعبوية، يمكن تصنيفها في خانة الهذيان الاجتماعي، الذي استل فيه بعض المرضى نفسيا والمنفصمين فكريا، “ترمومتر التديّن” ليحاكموا النّاس على نواياهم، قبل أن تترجم إلى أفعال.

مقالات ذات صلة