-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هذه رسالة الدحدوح إلى كل المسلمين

هذه رسالة الدحدوح إلى كل المسلمين

لا بطل يعلو هذه الأيام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على امتداد الجغرافيا العربية الإسلامية، فوق الصِّحافي وائل الدحدوح، حتى وصفه المدوِّنون بـ”جبل غزة”، و”أيوب زمانه”، كناية عن قدرته العجيبة على الصبر وتحمّل وجع الفراق لأفراد أسرته تباعًا، من زوجته وابنه وابنته إلى نجله البكر، ثم ابنَيْ أخيه، مرورا بسقوطه جريحًا مُصابًا تحت القصف، من دون أن يثنيه ذلك عن أداء رسالته الإعلامية من قلب الحرب الظالمة على أبناء شعبه في القطاع.

الزميل وائل ليس استثناء في أرض الرباط، وإن كان الإعلام قد سلط عليه الأضواء لطبيعة مهنته، بل هو نموذج لأهل فلسطين المجاهدين دفاعًا عن الأرض والعرض، إذ قدَّم الآلافُ من الرجال والخنساوات أبناءهم شهداء على محراب الحرية والكرامة من دون جزع ولا ندم، وما زالوا مستعدين لبذل من بقي منهم في سبيل الوطن.

الزميل وائل هو أحد الأبطال الفلسطينيين الذين رفضوا التولّي يوم الزحف والهروب من ميدان المواجهة مع العدوّ، فاختار طواعيّة استكمال رسالته المهنية النبيلة بين صفوف شعبه، مع يقينه الجازم أنه محلّ استهداف صهيوني في كل لحظة.

وائل أدرك أنّ العدو الإسرائيلي يريد حجب حقيقة الجرائم المروِّعة ضد الفلسطينيين، بقتل الصحفيين وترهيبهم بالموت، الواحد تلو الآخر، ليفرّوا من آلة الدمار، فرفض فكرة المغادرة من الميدان تحت الإكراه، مع أنّ مؤسسته الإعلامية الكبيرة تكون، بلا شكّ، قد عرضت عليه تأمين نفسه وأفراد عائلته، خاصة عقب فاجعته الأولى بفقدان  ثلاثة منهم دفعة واحدة، ثم استشهاد رفيقه سامر أبو دقة وتقريبًا كلّ أسرة زميله بطاقم الجزيرة مؤمن الشرافي، وآخرهم فلذة كبده الأولى، فضلا عن عشرات الزملاء الآخرين الذين تجاوز عددهم حتى الآن 109 شهيد، لكنه أبى في النهاية إلا أن يكون واحدا من عموم شعبه في معركة الصمود والثبات على الأرض.

كان الزميل وائل يردد، عقب كل فاجعة متجددة، أن البقاء في غزة، مراسلاً حربيّا، هو خيارُه وقدره، وأن الأعمار بيد الله وحده، ولن يعيش الإنسان في الحياة الفانية بعد أجله المحتوم ولن يرحل قبل موعده، ما جعله ينحاز بصبر أسطوري وإيمان راسخ لأداء رسالته الإعلاميّة، ليباشر فورًا بلا تردد ولا تأخر نزوله للميدان، حتى صار مضرب المثل عالميّا في الاحتساب والثبات على الموقف، ملهمًا لكل المصابين من أبناء وطنه في ذويهم وأقاربهم.

إن السؤال المهم في هذا السياق: من أين يستمد وائل الدحدوح كل هذه القدرة الرهيبة على احتمال الوجع القاتل وتجاوز الألم النفسي؟ وأي رسالة يبعثها بسلوكه الرجولي إلى كل المسلمين في العالم؟

إنه لولا عقيدة المؤمن بالله، المفوّض كل شؤونه لخالق الملكوت، الراضي بأقدار المولى سبحانه في هذه الدنيا القصيرة والمحتسب لثوابه في دار القرار، وإخلاصه في الانتماء الوطني، ما كان للرجل أن يتحلّى بهذا الصبر العجيب ويصرّ على الثبات في معركة استعادة الحق والمقدسات، فهو موجودٌ هناك، ليس فقط بصفته المهنية الإعلامية، بل لكونه فلسطينيّا، أصيل الأرض المفدّاة، المتشبِّث بحقّه المقدس في الحياة والحرية وبناء الدولة المستقلة.

إنّ رسالة الدحدوح إلى كل مسلم على وجه الأرض، هي أن الحياة الفانية لا تستحق العناء إذا خلت من قيمة سامية نعيش لأجلها ونبذل في سبيلها الغالي والنفيس، وأنّ الدنيا محطة عبور سريع نحو الآخرة، يستثمرها العاقل في إعمار الأرض بالأعمال الصالحات وصناعة الخير وإسعاد الناس ونصرة المظلومين وإعلاء الدين والذود عن الوطن، وما دون ذلك فهو لهوٌ ولعبٌ ولغوٌ لا يليق إلا بصغار القوم من ضعاف النفوس والهمم والغافلين عن حقيقة الاستخلاف الحضاري.

من تابع مأساة الدحدوح، ومثله مئات الآلاف من الفلسطينيين المرابطين اليوم في غزة وأكناف بيت المقدس، يحتقر يقينًا إيمانه وعبادته وأفكاره وعطاءه العامّ، على افتراض أنه من باذليه، أما إن كان من المقصّرين في جنب الله وحق نفسه، فجدير به البكاء عليها دهرا طويلا، حتى يصحو قلبه الميت بالملهيات وسفاسف الأمور المُهلكات، قياسًا بهمّة وسخاء هؤلاء الرجال العائدين من رعيل الصحابة الأوّلين.

نعم.. يستحق الوطن الفداء بالروح والولد، فكيف إذا كانت رايته التوحيد، لكن ليس كل الناس على همّة واحدة في الاستجابة لنداء الواجب في اللحظات التاريخية الحاسمة، وها هو الدحدوح وإخوانه الصابرون يذكّرون الأمة كلها بجيل نبويّ فريد، وأجيال أخرى من التابعين والفاتحين الذين تحمّلوا كل الأذى في سبيل نشر الإسلام، مثلما يعيدون إلى ذاكرة الجزائريين، على وجه الخصوص، كل صور البطولة والملاحم الخالدة التي خاضها الآباء والأجداد ضد الهمجية الفرنسية الغاشمة حتى استعادوا سيادتهم الوطنية بكل جدارة.

إن محنة الدحدوح والأشقاء في فلسطين يُفترض أن تعيد ترتيب الأهداف والأولويات في حياة كل مسلم صادق عاقل، بتقديم الرسالة والقيم والأخلاق والصالح العامّ على معارك الأنا وحظوظ النفس والمادِّيات الفارغة، حتى يكون لحياتنا المعنى الوجودي، وإلا عشنا مجرد أسماء شخصيّة على سجلّات ملايير المواليد، ثم نرحل عاجلا ضمن أرقام الوفيات، من دون أي بصمة تخلّد مآثرنا بين الأنام وتضمن لنا النعيم الدائم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!