الرأي
الطبيب الدكتور محمد شيدخ يكتب:

هل الاقتداء بفرنسا في تسييرنا لكورونا هو قدرُنا؟

محمد شيدخ
  • 8364
  • 15
يوتيوب
لقطة من فيديو تظهر العامل الفلسطيني بعد وصول الطواقم الطبية لمساعدته يوم الاثنين 23 مارس 2020

اعتمدت المنظمة العالمية للصحة خلال تسييرها لثاني جائحة في التاريخ نجمت عن فيروس الانفلونزا من صنف “أ ه1ن1” والتي ظهرت في مدينة “غلوريا” بالمكسيك سنة 2009 وانتشرت عبر عديد الدول متسببة في وفاة ما يقارب 400 ألف مريض استراتيجية أعِدت سنة 2005 وتم تحيينها مباشرة أثناء التعاطي مع هذا الوباء في بدايته أي خلال سنة 2009.

ترتكز الاستراتيجية على مراحل ست؛ ففي المرحلة الأولى يكون الفيروس حبيس الحيوانات أو الطيور التي تعدّ الوعاء الأصلي له ولم يُسجَّل إصابة أي إنسان، وفي المرحلة الثانية يكون الفيروس قد انتقل إلى الإنسان مؤسسا القاعدة الأساسية لاحتمال ظهور الوباء، أما في المرحلة الثالثة فيتم تسجيل حالات مرض وإصابات عند عديد الأفراد هنا وهناك وحتى على مستوى بعض التجمعات دون تسجيل انتقالية كافية بين الناس من شأنها المحافظة على الانتشار، ويمكن أن يكون هناك نقلٌ للعدوى من الإنسان إلى أخيه الإنسان بطريقة محدودة وضعيفة ولكنها نادرا ما تحدث، والفيروس في هذه المرحلة لم يصل بعد إلى درجة بروز جائحة ما. وخلال المرحلة الرابعة يكون تناقل الفيروس بين الناس مؤكدا وكبيرا مسبِّبا انتشارا واسعا للمرض داخل التجمعات بصفة دائمة، ما يستدعي القيام بإجراءات قوية لكبح انتشار الفيروس والتحكم في الجائحة المحتملة. وفي المرحلة الخامسة ينتشر الفيروس بسرعة ويمس على الأقل دولتين، وهنا يعدّ الأمر جللا ويتبعه حتما تدخلٌ صارم للدولة في إطار الحد من الأضرار اللاحقة وكل وسائل الوقاية، أما المرحلة السادسة فتمثل مرحلة الجائحة بكل تبعاتها الصحية الاقتصادية والسياسية، وعند انتهاء الأزمة الصحية العالمية يتحدث خبراء المنظمة عن دخول مرحلة لم تحصَ وهي نظريا المرحلة السابعة.

ونظرا لوقوع المنظمة العالمية للصحة في ورطة كبيرة مع بعض المنظمات الدولية ومع بعض خبرائها بسبب اتهامها بسوء تسييرها لجائحة 2009 لأنها عرفت الجائحة آنذاك بأنها الوباء الذي يؤدي إلى عدد كبير من الوفيات، رغم أن التعريف العلمي المعتمد والمشفوع بالإجماع لدى المجموعة العلمية وكافة الخبراء هو أن الجائحة تقاس ويصرَّح بها حسب درجة انتشار الوباء في الدول، ومن ثم كان تقدير المنظمة ناقصا فيما يخص اتخاذ الإجراءات الكافية والقوية بكل شفافية لتسيير الأزمة بصفة دورية بكل خبرات المنظمة وانعدمت التوجيهات الخاصة في الوقت المناسب وبكل اللغات لكل الدول.. وكل هذه المعلومات وردت حسب تقرير من ذات المنظمة.

وعلى إثر هذه التجربة المريرة لهذه الهيئة العالمية، رفع بعض خبرائها توصيات واقتراحات من أجل تبسيط درجات المراحل الوبائية وتم اقتراح واعتماد ثلاث مراحل بدل الست في شهر مارس 2011؛ المرحلة الأولى هي مرحلة البداية ثم مرحلة التنبيه وأخيرا مرحلة الجائحة.

أما فرنسا فقد وضعت حكومتها خلال نفس السنة أي عام 2009 أربع مراحل لتسيير الأزمات الوبائية؛ ففي المرحلة الأولى يكون الفيروس خارج التراب الفرنسي مع احتمال ظهور أول الحالات المنقولة، ما يستوجب وضع مخطط مراقبة صارمة للحدود والتكفل بالمرضى واتخاذ كل إجراءات الوقاية. أما في المرحلة الثانية فيتم تعميم الوقاية وغلق أقسام الدراسة ومنع التجمُّعات، وفي هذه المرحلة يكون ربح الوقت واستباق الزمن من أجل إيجاد لقاح مناسب فكل المخابر منشغلة بهذه المهمَّة الإنسانية السامية. وخلال المرحلة الثالثة يكون انتشار الفيروس قد مس غالبية التراب الوطني والهدف هنا هو التقليل من آثار الموجة الوبائية التي نعرفها بالارتفاع السريع نوعا ما لعدد الإصابات مع وجوب التقليل من تشبُّع المستشفيات والعيادات والتخفيف عليها منعا للتجمعات وإصابة مهنيي الصحة ومنع حركة المرور إلا الضروري منها وتقييد حركة الأشخاص حسب درجة إصابة المنطقة. وترك المشرّع الفرنسي المرحلة الرابعة لنقطة رجوع للحياة العادية.

أما الصين صاحبة أكبر وأفضل تجربة في التعامل مع هذه الجائحة فقد عمدت الى تطبيق استراتيجيات مغايرة تماما اعتمدت على المعطيات الفيروسية الجديدة والوبائية وعلامات المرض السريرية من أجل تطبيق السياسة الملائمة مع انعدام اللقاح، فكانت الصين التي استوعبت جيدا درس وباء 2009 ولم تنتظر طويلا لوضع المدن التي تمثل بؤر المرض تحت الحجر الكامل والصارم وتطبيق كل أساليب الوقاية مع محاصرة الوباء، حيث انتشر بتطبيق نفس الإجراءات.

وفي هذا السياق، تحضرني مقولة لمدير المنظمة العالمية للصحة “لا بدّ من فصل المراحل الدولية في تسيير الجائحات عن المراحل الوطنية لكل دولة”، بمعنى أنه يتحتم على كل دولة أن تضع خطتها ومرحلية تطبيقها والانتقال من مرحلة إلى أخرى، ولا بأس من أخذ التوجيهات من المنظمة العالمية للصحة، وإن تحتم الأمر نأخذ تجربة من له خبرة ومسار ناجح لا من يتخبَّط  في الوحل بعد، لقد عشنا المرحلة الثانية الفرنسية وفي هذه المرحلة كانت فرنسا قد باشرت البحث عن اللقاح في مخابرها وماذا فعلنا نحن غير الانتظار؟ فكان الأجدر اتِّباع مرحلية المنظمة العالمية، ففيها رفق بنا وليونة ومضمونها صالحٌ لغالبية الدول ويشجع المبادرات المحلية أو اتِّباع النمط الصيني في مكافحة جائحة الكورونا، لأنه يسير نحو التتويج بالنجاح بشهادة المنظمة العالمية للصحة وذلك بتطبيق الحجر الصارم على كل الولايات التي سُجِّلت بها حالات المرض وكل الولايات المجاورة لها وتحمُّل تبعات ذلك اجتماعيا واقتصاديا درءا للمفسدة وحفاظا على بنية المجتمع والأمة بصيانة الأرواح والأبدان، لأنه لا يعلم مدى دمار هذا الوباء إلا رب العباد سبحانه وتعالى.

الموضوع الثاني يتعلق بإجراءات دفن وتغسيل ضحايا الكورونا، وقد نظرنا في الطرق التي اعتمدتها كل الدول تقريبا فوجدناها قد اعتمدت كلها على إجراءات وقائية صارمة  في التعامل مع الجثث، إلا أن الإجراءات الفرنسية مرت على مرحلتين؛ في الأول كان الميت يُغسل ويوضع في صندوق خشبي مغلق ولا يرى وجهه أحدٌ ولا يرافقه إلا شخص واحد من أهله، وبعد عدة انتقادات لهذه الطريقة المبالغ فيها تدخل البروفيسور “كريستيان شيدياك” رئيس قسم الأمراض المعدية بالمستشفى الجامعي بليون الذي تأسف كثيرا لهذه القيود فقامت الهيئة المختصة في تسيير الدفن والمقابر بنشر تقرير توضيحي سمح للأقارب برؤية وجه الميت قبل إلباسه المئزر الخاص والسماح لأهله  بإجراء طقوس وصلوات خاصة قبل نقله إلى المقبرة، وكان هذا المنشور بتاريخ 24 مارس 2020 وبعده مباشرة أي يوم 25 من ذات الشهر  نرى منشورا وزاريا جزائريا  يحمل رقم أربعة يدور في نفس الفلك، أما آن الأوان لخبرائنا وعلمائنا أن تكون لهم الكلمة في بلدهم؟ أم إن اتِّباع فرنسا والاقتداء بها أضحى قدرنا؟ اللهم لطفك وحِلمك، نرجو والعافية لكل العباد والحفظ والصون لجزائرنا الحبيبة. يقول العارف بالله الشيخ عبد الرحمان الثعالبي رحمه الله

إن الجزائر في أحوالها عجب            ولا يدوم للناس بها مكروه

وما حل عسر بها أو ضاق متَّسع       إلا ويسرٌ من الرحمان يتلوه

مقالات ذات صلة