-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل تصلح الجزائر ما أفسده دهر العرب؟

هل تصلح الجزائر ما أفسده دهر العرب؟

أيام قليلة تفصل العربَ على موعد قمة مرتقبة في الفاتح نوفمبر على أرض الثورة والشهداء، حشدت لها الجزائرُ دبلوماسيا وإعلاميا وبكل الإمكانات المتاحة، لتكون محطة على خلاف المألوف، سعيًا منها للمّ الشمل القومي المفرَّق وتوحيد المواقف العربية، وتحقيق ما ظل معطّلا من أهداف طيلة عقود، في ظل الضعف الفادح لآليات العمل المشترك على كافة المستويات، رغم ترسانة الاتفاقيات الثنائية والجماعية بين أقطار المنطقة.

لا يختلف اثنان في أن النظام الإقليمي العربي الذي ظهر بتأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 ظلّ مهلهلا في كل فترات التاريخ المعاصر، حيث تزامن بروزه مع وقوع أقطار كثيرة منه تحت نير الاحتلال، ثمّ تفرغت دوله لاحقا لمعركة البناء على أنقاض الخراب الاستعماري الذي مسّ الإنسان قبل العمران.

لكن ولسوء حظ العرب، فقد طعنتهم الإمبريالية العالميّة في وقت مبكّر بغرس الكيان الصهيوني في خاصرة الأمة لأهداف جيو- إستراتيجية، فتوالت عليهم النكبة والنكسة، ليزيد فتح مسار التطبيع منذ اتفاقية كامب ديفيد نهاية سبعينيات القرن العشرين من تشرذم النظام العربي.

لقد كان التعاطي مع القضية الفلسطينية من أبرز معاول الفرقة العربية الرسمية، لأن الشعوب العربية والإسلامية تعلّقت بها وناصرتها منذ 1948 بكل ما تملك، بينما خذلتها الأنظمة السياسيّة، مع استثناءات خاصّة، ضمن حسابات العروش والكراسي والتدخلات الخارجيّة.

وزادت حروب الخليج خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من الانقسام العربي، قبل أن يجهز “الربيع” مطلع العشرية الثانية من الألفية الجديدة على ما بقي من النظام العربي الإقليمي، إذ دخلت المنطقة في دوامة كبرى من الحروب الأهلية والتفتت الذاتي، على أسُس عرقية وطائفية ومذهبية، ولا يبدو أن التعافي منها سيكون قريبا، لأن آثارها العميقة ستستمرّ عقودا أخرى في ذاكرة الأجيال، حتى لو نجح العرب في إعادة الإعمار المادي.

وفي غضون ذلك، لم تنجح قمم العرب المتعاقبة في جمع الكلمة ولا توحيد القرار ولا حتّى التوافق عمليا على الحد المعقول من العمل المشترك، لأن بعض الأنظمة العربية انخرطت في مسارات قُطرية ضيقة، بل وظيفية أحيانا لصالح قوى الهيمنة الغربيّة، على حساب التطلعات القومية للأمة، مقابل أنظمة أخرى ربما كانت صادقة في تحيُّزها للشعوب العربية، لكن خانتها الرشادة والحوكمة والأخذ بالأسباب الفعلية للنهضة والتقدم، فلم تكن أقلّ سوءا من غيرها، وانتهى بها المطاف إلى جنايات فظيعة في حق شعوبها.

بعد أسبوع واحد سيلتقي قادة العرب مجددا في الجزائر، قد يسأل البعض: وماذا بعد؟ هل ستنجح في لملمة شملهم المتناثر على قارعة الجغرافيا؟ وهل تتمكن من تفكيك كل الألغام التي زرعها دهرٌ مرير من الخلافات بين الإخوة المتشاكسين؟

بالتأكيد أن الإجابة على سؤال مركزي مركّب لن تكون شمولية ولا تحتمل التعقيب الجازم بنعم أو لا، لكن الثابت حتى الآن أن الجزائر ستضع القادة العرب أمام مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية في الاستجابة لتطلعات الشعوب العربيّة، خاصة أنها كانت صريحة منذ البداية في قبولها لاحتضان الموعد، حين أصرَّت على استثماره لإعادة ترتيب البيت الداخلي.

لقد وضعت الجزائر، أو هذا ما يبرز من خطابها الدبلوماسي على الأقل، الملفات الفلسطينية والليبية والسوريّة وتفعيل آليات العمل المشترك على أولويات الأجندة العربية المرتقبة، وإذا كنّا لا ندري إلى أين وصل مسعى إدماج دمشق ضمن مؤسسة الجامعة، بعد ما أعلنت إرجاءها للخطوة، فإن القيادة الجزائرية قد نجحت مرحليّا في جمع الفصائل الفلسطينية على ورقة طريق عملية لإنهاء الانقسام، في انتظار توثيقه ضمن مخرجات القمة لضمان متابعة عربية للإشراف والتنفيذ الميداني.

بقي الرهان الآخر للجزائر، إذا أخلص الآخرون لمصلحة الشعب الليبي، هو الخروج بخطة تسوية للأزمة الليبية بما يضمن السيادة الترابية والسلمية من خلال الخيار الانتخابي ضمن آجال زمنية معقولة، تُنهي معاناة الإخوة الليبيين مع منطق الميليشيات وتعطيل مقدرات البلد في ظل تفكك الدولة منذ سقوط نظام معمر القذافي.

أمّا قضية العمل المشترك التي لا تزال تراوح مكانها بعد عقود من الخطابات والاجتماعات والاتفاقات فهي اليوم حتمية تاريخية، لا مفر للعرب منها، في عصر التكتلات الإقليمية، وفي ظل بروز معالم إعادة تشكُّل العالم وفق موازين قوى جديدة، ناهيك عن الحاجة الذاتية البراغماتية للتعاون البيني.

ولعلّ من أهم أولويات القمة العربية هو إصلاح منظومة الجامعة في حد ذاتها وهو المطلب الذي طرحته الجزائر منذ قرابة 20 عاما، ولكنه لم يعرف التقدم، بل ربما يواجه المقاومة في مستويات ما، وسواء سمحت الظروف بتفعيله الآن أم لا، فإنه سيبقى ضرورة ملحّة للتفاعل مع الواقع.

الأكيد أن الجزائر برصيدها التاريخي ودبلوماسيتها الأخلاقية وعلاقاتها المتميزة مع العواصم العربية وجديّة قيادتها السياسية تحوز مقومات كثيرة، لجعل القمة القادمة مختلفة عن سابقاتها، بغضّ النظر عن مستوى تجاوبها مع التطلعات الشعبية، لكن للأمانة، نحن لا نفرط في التفاؤل، لأن النتيجة النهائية يحددها الأداء الجماعي المتعلق بالإرادة المشتركة والاستعداد التكاملي من كل الأطراف، لتحقيق المبتغى والواجب على أعلى قمة مسؤولة عن أوضاع العرب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!