هل سيكون للجزائر أردوغانها؟
إذا كنت لا أستطيع إخفاء إعجابي بشخصية أردوغان، وانحيازي لذكائه السياسي المثير للإعجاب، فإنه من الصعب أن أرمق تاريخه النضالي وحظوظه الفكرية والثقافية التي صنعت له التفوق والنجاح، ثم أقبل بسهولة فكرة من يتصور أنه يمكن أن يصبح بين عشية وضحاها أردوغان الجزائر، وينتظر من الجماهير أن تهتف باسمه وأن تقدم لذاته الولاء والطاعة والإعجاب، لمجرد أنه يملك صفة »إسلامي« أو لمجرد أنه رئيس حزب سياسي، أو لمجرد أنه وصل إلى منصب مرموق في الدولة.
-
لا تحلم
-
أقول هذا، ليس استهانة بكفاءات بلدي ومواهب الجزائريين، فقد يكون من بين أبناء وطني من هو في مستوى أردوغان فكرا وذكاء وعملا، غير أن الجزائر ليست تركيا، من حيث الثقافة السياسية السائدة، ومن حيث طبيعة النظام والدولة والمجتمع، فضلا عن الخصائص النفسية والثقافية التي يمكن أن تشكل الفارق بين شخصية أردوغان وبين غيره.
-
لذلك، عندما رغب إليّ شباب كثر على الفايس بوك، الكتابة عن التجربة التركية وعن اردوغان تحديدا، وطرحوا علي سؤال أحلامهم: لماذا لا يكون للجزائر اردوغانها، وهم يقصدون أي شخصية إسلامية سياسية يمكن أن تلعب في الجزائر دور اردوغان في الوصول إلى السلطة، لم أجد من أرشحه لإتقان لعب هذا الدور الحاسم الذي لا يمكن أن يتم ارتجالا، أو دون أن يتجرد له رجال أتقياء وأذكياء من صنف الشيخ نحناح – رحمه الله – الذي لو بقي حيّا لتقدم على اردوغان مسافات.
-
إنني عندما أتحدث عن هذا الرجل وأزجي الثناء له، أعرف بالضبط مقدار ذكائه السياسي في خدمة الإسلام وبناء أمته، ومقدار إيمانه بأن العمل الصعب “هو تغيير الشعوب، أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائيا عندما تريد الشعوب ذلك”، لذلك كان يفكر في الإصلاح المتأني، والتغيير الذي جزم القرآن الكريم بنتائجه عندما قال: “إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”.
-
وإذا كنت أكره أن اتّهم نية الناس، وأكره التشكيك والتثبيط، فإن عيشي مع بعضهم – ومازلت بينهم – وقربي منهم، جعلني أعرف أن بعضهم لا يُؤتمن على قيادة أسرة صغيرة، ويحلم مع ذلك بأن يصبح قائدا لأمة ودولة، وأن ذكاء بعضهم لا يرتفع إلى ذكاء أبسط مناضل في حزب العدالة والتنمية التركي، ويحلم مع ذلك بأن يلعب دور اردوغان!!
-
اختم هذه النقطة، بنكتة هادفة عن شاب متديّن، ذهب لخطبة فتاة جميلة جدا، لكنه أصرّ ببلادة على أن تكون فتاة أحلامه في تديّنها مثل فاطمة بنت الرسول – صلى الله عليه وسلم –
-
فقال له والدها بذكاء وحكمة، بعد أن اكتشف غباء هذا الولد البليد: إن الذي يطلب فاطمة يا ولدي، ينبغي أن يكون عليّا، فهل أنت علي بن أبي طالب؟ فسكت الشاب الأبله، وانتهت القصة برجوعه إلى بيته، وقد تبخر حلمه الذي طاف بمخيلته، ولم يجد في يديه إلا الريح!!
-
لذلك أقول، إنه لا فرق عندي بين هذا الولد الأبله، وبين أي إسلامي في الجزائر، يجلس على كرسي وثير، يشرب الشاي في نادي الصنوبر، ثم ينتظر أن تضطرب من أجله قوانين الكون، ليصبح الرجل المعجزة، ويتحول إلى اردوغان الجزائر في لحظة حالمة!!
-
-
وعي الأتراك
-
عندما عشت في أوربا متنقلا بين عواصمها في التسعينيات كنت في النمسا وألمانيا على علاقة قريبة بإخواننا الأتراك، حيث أدركت أن هؤلاء القوم، على اختلاف مشاربهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، كانوا قوما عاملين ناشطين في ميادين العمل الاجتماعي والسياسي، بل وأكثر وعيا منا بمتطلبات ذلك ووسائله، خصوصا من نواح ثلاث:
-
1- الوحدة والانضباط تحت لواء الحزب أو التنظيم الاجتماعي.
-
2- التمسك بالثوابت الكبرى، والتفاعل مع الجديد والتجديد.
-
3- والأهم من كل ذلك – وهو ما أريد التركيز عليه – حسن التعامل مع الثنائيات الصعبة، وعلى رأسها ثنائية الشكل والمقصد، أو جدلية العلاقة بين الوسيلة والغاية.
-
فعندما يقول أردوغان مثلا، إنه غير “إسلامي” رغم أن الكل يعرف جوهره الاجتماعي والثقافي المسلم، ندرك أن القوم، تجاوزوا بوعيهم الثقافي والفكري المتقدم، منطق الجدل الذي مازال يثور في الوسط الحركي الإسلامي بين أهل المقاصد والمضامين وأهل الوسائل والأشكال، أو بين المتجهين إلى الغايات الكبرى، والمتشبثين بالوسائط والطرائق والأشكال.
-
صحيح أن المجتمع التركي بحكم قربه من أوربا، ونظام حكمه العلماني الطويل، أصبح أكثر تهيّأ لقبول ما قاله اردوغان، غير أن تطور وعيه السياسي والثقافي بشكل ملفت، جعله أيضا أكثر استعدادا للتضحية بالصفات والألقاب من أجل مقتضيات المبادرة والانطلاق، وهي نزعة ذكية، تميز بها الوعي التركي السياسي المعاصر، ولم يتعامل معها بذكاء الوعي الحركي الإسلامي حتى وإن كان لا يوجد ما يبررها في المجتمعات العربية المسلمة التي مازالت ترفض بشكل جدي وصارم أي فصل بين صفتها الإسلامية وجوهرها الاجتماعي والثقافي.
-
ونحن عندما نثير هذه النقطة ونركز عليها، إنما لنصل في نهاية المطاف إلى طرح سؤال مهم: ماذا قدم لنا الإسلاميون المصرّون على الاحتفاظ بصفة »إسلامي« ومازالوا يخوضون المعارك الطاحنة من أجلها، مقابل ما قدمه اردوغان للإسلام وأمته رغم نفيه عن نفسه وعن حزبه صفة إسلامي؟
-
-
خلاصة
-
إنني أكره تعصّب الأتراك لقوميتهم، وأرى في تاريخهم العثماني سوابق خطيرة، قد لا أستكثر على مرتكبيها من الباشوات والآغات حبل المشنقة ولا سكين المقصلة، لكن أعترف أن لهؤلاء القوم رجالا أذكياء وأقوياء، ومنهم أربكان وأردوغان اللذان ينبغي عند محاولة الاقتداء بهما، مراعاة الذكاء والحكمة.