-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل صار استحضارُ التاريخ مشكلة؟

بن يغزر أحمد
  • 548
  • 0
هل صار استحضارُ التاريخ مشكلة؟

أريد من القارئ الكريم بداية أن يتذكر معي ثلاثة وقائع لها علاقة بطريقة التعامل مع التناولات الجدلية للتاريخ الوطني في ثلاث محطات سابقة:

  • في سنة 2000 أصدرت محكمة بالجزائر العاصمة حكما يقضي بسحب مذكّرات الرئيس الأسبق الراحل علي كافي رحمه الله من السوق، وإعادة طبعها بعد حذف صفحات تتعرض “بالإساءة إلى شخصيات وطنية تاريخية –على حدّ قول محامين- وتغريم الرئيس الأسبق رمزيا بدينار واحد”.
  • في سنة 2020 أنهت وزيرة الثقافة آنذاك، مهام مدير الثقافة لولاية المسيلة، بحجة”تخوينه أحد رموز الثورة” ويتعلق الأمر بعبان رمضان، في منشور له على صفحته في فيسبوك، كما تمت متابعة المعني قضائيا وحُكم عليه بستة أشهر حبسا منها ثلاثة نافذة.
  • وفي 26 جوان 2021 أوقفت مصالح الأمن مدير قناة “الحياة” من أجل التحقيق معه على خلفية بث حوار تلفزيوني أجراه مع نائب برلماني سابق (وقد أوقف هو أيضا لاحقا) تمت فيه الإساءة من طرف هذا الأخير لشخصية الأمير عبد القادر وللزعيم السياسي مصالي الحاج وللرئيس هواري بومدين رحمهم الله جميعا.

تشترك الوقائع الثلاث في أن أطرافها لا تربطهم علاقة علمية أكاديمية بالتاريخ؛ فالأول رئيسٌ سابق، وهو رغم كونه فاعلا وشاهدا باعتباره من مجاهدي ثورة التحرير، فإن ما كتبه لا يتجاوز كونه مذكرات شخصية يمكن أن تكون مادة خامّا وشهادة مهمّة للتناول التاريخي، لكنها بالقطع ليست تاريخا بالمفهوم المنهجي.

أما الثاني فهو إداريٌّ ومثقف عبَّر عن رأيه بتغريدة على صفحات التواصل الاجتماعي، وربما باعتبار موقعه مديرا ولائيا هو ما أعطى لمنشوره حساسيّة ما، ويعدّ الثالث نائبا برلمانيا سابقا وسياسيا مهتما بالتاريخ.

إن ما أثارته هذه الوقائع وشبيهاتُها من تداول وجدل إعلامي لم تنجح أيُّ دراسة علمية جادة وهي كثيرة -كتبا وأبحاثا منشورة- في إثارته طيلة الفترة المذكورة، ربما يكون لانسياق الإعلام -بحكم طبيعته في البحث عن الإثارة- دورٌ في جلب الاهتمام إلى مثل هذا التجاذب والذي عادة ما يتم دفعُه في اتجاه المناكفات والتوظيفات السياسية.

لقد أغلِقت هذه الوقائع في أروقة المحاكم، وفي إصدار أحكام المنع والسجن أحيانا، طبعا للسلطة ولمؤسساتها القضائية تبريراتُها ولها دوافعها باعتبارها مسؤولة بشكل مباشر على صون رمزية الذاكرة الجماعية من أن تتعرض للانتهاك أو الخدش أو التشكيك، لكن هل يمثل ذلك حلا مستداما؟ وهل بمثل تلك الإجراءات نضمن أن لا تثار هذه القضايا الجدلية وما يماثلها في التاريخ من جديد بشكل غير سليم؟ والأهم من كل ذلك: هل هذا الأسلوب هو الأمثل في التعامل مع قضايانا التاريخية؟

لقد أغلِقت هذه الوقائع في أروقة المحاكم، وفي إصدار أحكام المنع والسجن أحيانا، طبعا للسلطة ولمؤسساتها القضائية تبريراتُها ولها دوافعها باعتبارها مسؤولة بشكل مباشر على صون رمزية الذاكرة الجماعية من أن تتعرض للانتهاك أو الخدش أو التشكيك، لكن هل يمثل ذلك حلا مستداما؟ وهل بمثل تلك الإجراءات نضمن أن لا تثار هذه القضايا الجدلية وما يماثلها في التاريخ من جديد بشكل غير سليم؟

إن استحضار التاريخ بشخوصه وأبطاله وقضاياه في حاضر كل أمة مسألةٌ حيوية، وهو يدل على وعي حيّ، فتاريخ أي أمة هو في المحصلة خلاصة تجربتها، وثمرة خبرتها، وهي عندما تستدعيه في مدارسها وجامعاتها درسا، وفي مراكزها ومخابرها بحثا، وفي وسائل إعلامها تداولا ونقاشا، فإنما هي تستثمر في هذه التجربة وفي هذه الخبرة لحاضرها ولمستقبلها.

لكن هذا الاستحضار للتاريخ قد يتحول إلى غير أهدافه السامية، بل قد يساهم في تلغيم الحاضر والمستقبل في المجتمعات الهشّة التي لم يرسوا وعيُها الجماعي على صورة مستقرة لهويتها، ولم تتهيأ بنيتُها الذهنية وعقلها الجمعي بشكل كافي للتعايش الإيجابي مع تنوعاتها واختلافاتها.

ولهذا ينبغي لهذا الاستحضار أن يؤسَّس على قواعد صحيحة ومسارات واضحة حتى لا يتحوّل إلى استحضار سلبي، وحتى يكون النقاش التاريخي العامّ مؤطرا على غرار العمل التاريخي الأكاديمي، وقد لا يكون من الواضح تحديد الجهة التي من الممكن أن تناط بها مهمّة تثبيت هذه القواعد والمسارات، لكن يبقى ارتفاع الوعي الجماعي العامّ، واستشعار المؤسسات العامة المختلفة والنخب لدورها في هذا الشأن، هو خير ضامن لتحقيق ذلك.

طبعا لا يمكن منع غير المختصّين من تناول التاريخ وأحداثه ورموزه، أو احتكار هذا الحقل تخصّصيا أو نخبويا أو فئويا، ففضلا على أن ذلك غير ممكن عمليا بسبب تعدد وسائط النشر والوصول، فهو مسلكٌ مجانب للصواب، فالتاريخ ملكٌ للكل، ومن حق المجتمع بكل فئاته ومكوناته ومن خلال كل المنصات الممكنة أن يعبّر بطريقته عن اندماجه مع تاريخه، وعن تبنّيه لقضاياه، وهو ما يعطي لهذا التاريخ فعاليته في تشكيل الوعي الاجتماعي.

المسلكية الصحيحة لاستحضار التاريخ أو غيره من مقوِّمات الأمة التي تشكِّل ذاتها الجماعية تتأسَّس بشكل أساسي على ارتفاع منسوب الوعي العامّ، وهي الثمرة المفترَضة والمنتظَـــرة من أدوار مؤسسات اجتماعية تبدأ بالأسرة وتمرّ بالمدرسة والمسجد والإعلام وبمختلف مراكز التنشئة والتوجيه، وتتوَّج بالأدوار الواعية والفاعلة لأجهزة الدولة والقائمين عليها.

كما تتأسس أيضا على ضرورة تمثل التاريخ في المخيلة الجماعية للأمة على أنه تجربةٌ بشرية لا تملك أيَّ قداسة أو حصانة تجعلها بمنأى عن المراجعة والمساءلة، ولكن في الوقت ذاته ينبغي أن لا يكون هذا التاريخُ ساحةً مستباحة لتصفية مناكفات الحاضر، ولا ذخيرة حيّةً في الصراعات ذات الدوافع المختلفة.

وربما يجب التذكير بضرورة التمييز بين مستويات التاريخ، وبين ما يستحقه كل مستوى؛ فمستوى رصد الوقائع والأحداث، غير مستوى الأنساق التي تتجمّع فيها هذه الأحداث لتُكسِبها معاني ودلالاتٍ معينة، وهو غير مستوى التأويل والقراءة التحليلية للتاريخ، والتعامل مع هذه المستويات كأنها شيءٌ واحد يكون في الغالب سببا في الاستحضار غير السليم للتاريخ.

إن التاريخ من خلال أحداثه ووقائعه وتحوّلاته هو بكل بساطة نتيجة تفاعل بين صانعيه وعموم الناس وبين واقعهم، وفق ظرفياتهم، والمعطيات المحيطة بهم، وتقديرهم لما هو صواب ولما هو خطأ،” تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” وبالتالي ليس من الحكمة تحميله أكثر من ذلك، ولا محاولة قراءته بعيون وظرفيات ومعطيات الحاضر، ولا الإصرار على ليِّ عنق أحداثه لتخدم هذا التوجُّه أو ذاك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!