-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل هجر الجزائريون اللغة العربية؟

هل هجر الجزائريون اللغة العربية؟

تزامنًا مع اليوم العالمي للّغة العربية، بادرت عدة جمعيات ومؤسسات عمومية في مدن كبرى بتنظيم فعاليات في سياق الحدث السنوي، لكن الظاهرة المشتركة بينها جميعا هو ضعف الإقبال الجماهيري الذي لا يتعدّى أحيانا العشرة أفراد إذا استثنينا المبادرين بالنشاط.

هذه الصورة الطارئة دفعت البعض إلى التعليق بشأن وضع اللغة العربية، بما يوحي بحالة الانفصال مع مجتمعها، وهو في الحقيقة موقفٌ متسرّع وسطحي يتجاوز الغوص في الأسباب الجوهرية، عوض الوقوف عند الأعراض الجانبيّة.

أوَّلا ينبغي التأكيد أن العربية لا خوف عليها في الجزائر، رغم النقائص في كثير من جوانب التعريب في الإدارة والمحيط وضعف المستوى اللغوي لدى متحدثين بها، خاصة وسط المتعلمين والشباب، لكن اللغة التي صمدت 132 عام في وجه المشروع الاستيطاني الفرنسي ثم مرسوم كاميي شوطون المشؤوم لن يهدد وجودها شيء في عهد الاستقلال، حيث الملايين من خريجي الجامعات والتعليم العامّ يحسنونها ويتواصلون بها، وما فوق ذلك يبقى مطلوبًا ضمن الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية.

اليوم تصدر آلافُ العناوين في الجزائر سنويّا بلغة الضادّ في كل الحقول المعرفية والإبداعية، ويحتفي المشهدُ الأدبي كل موسم بميلاد كتَّابٍ جديد من جيل الشباب الرائد في فنون القصة والرواية والشعر والنثر، مثلما يُقبل أبناؤنا بعشرات الآلاف على الكتاتيب والمدارس القرآنية والزوايا، وهي المحاضن الأولى في اكتساب العربيّة وتكوين ملكتها الحسيّة والذوقيّة.

أمّا إذا عُدنا إلى ظاهرة العزوف عن النشاطات الثقافية الموجَّهة للاحتفاء بالعربية، خاصة في الحواضر الكبرى، على غرار العاصمة مثلا، فيمكن تلمّسُ خلفياتها بعيدا عن وضع اللغة وموقف المجتمع من قضيتها، وقد يكون الاطمئنانُ عليها أول العوامل التي تُقعد بالناس عن تلبية دعوتها، في ظل تراجع الدافع الأيديولوجي برحيل جيل كامل عايش معركة الوجود الحضاري.

لا يمكن أن نُغفل آثار التطور التكنولوجي وإِلْف استعمال وسائل التواصل الرقمي، فضلا عن السلوكيّات الجديدة التي أفرزتها جائحة كورونا، إذ لم تعد النشاطات الحضوريّة تستقطب الجمهور في كل المجالات والقطاعات، بما فيها دروس المساجد، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار إحداثيات الزمان والمكان بالمدن الكبرى، والتي تعاني من ازدحام الطرقات واشتغال الناس بحياتها اليومية، ما يوجب الخروج من صالونات المدن إلى رحاب الجامعة، حيث حشود الطلبة بحاجة إلى التلقّي وتواصل الأجيال.

ولعلّ من نافلة القول التذكير بأن محتوى هذه المناسبات صار في كثير من الأحيان احتفاليّا أكثر منه موضوعيّا، بينما الأصل مواكبة التحوُّلات بإثارة قضايا مستجدة في المسألة اللغويّة، ليس فقط لأجل جلب المهتمِّين، بل للتركيز أيضا على استهداف الإفادة العلميّة والتثقيفيّة.

نظنّ أنّ البراغماتية اليوم تمنح الأولوية لاستعمال التكنولوجيا بدل استنزاف الجهد في فعاليات تقليدية لا يبلغ صداها الجمهور، وهذا لا يمنع من تنظيمها إذا أمكن ذلك ومهما كان حجم المشاركة، لكن من غير المنطقي الرهان عليها في عصر التواصل الافتراضي، بل ينبغي استثمار التقنيّة في تمرير الرسالة إلى خارج اللقاءات الضيقة.

لذلك وجب على الفاعلين في الميدان، في صورة مؤسسات جمعويّة أو أفراد، الانتقال فورًا إلى استغلال التكنولوجيا في مخاطبة الوعاء الثقافي، بل الاستثمار المادي والفنّي لتكوين متخصّصين من ذوي المهارات الإبداعية، لاختصار الكثير من الجهد والوقت في تحقيق الأهداف المرجوّة.

الخلاصة أن العربية تتقدم، وهي مستفيدة جدا من وسائل التواصل الاجتماعي التي فرضت على الآخرين استعمالها للوصول إلى الجيل الجديد، لكن على روّادها التكيُّف مع العصر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!