-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل يمكن الاستفادة من النموذج المزابي؟

لمباركية نوّار
  • 1915
  • 4
هل يمكن الاستفادة من النموذج المزابي؟
ح.م

تحمل المفاهيم في أحشاء حروفها قدرة تعبيرية دفاقة وخلاقة لا تُضاهى؛ وتسهِّل التواصل وتيسِّر التفاهم بأقل جهد، وتوسِّع مساحات التجاوب. ولذا، فلا مندوحة عن التحري أثناء استعمالاتها، والنأي بها عن التوظيف المسرف والمبهم والفوضوي الذي يشوِّهها، ويصل بها إلى حد التناقض. وليس هذا التحري بالأمر الذي يؤتى هونا ومخففا، وخاصة إذا كان المفهوم كملكية مشاعة، وتتناوب عليه عدة مجالات معرفية.

اعتقد أن مفهوم: “النموذج” واقع كالطريدة تحت بطش هذه الملاحظة الأخيرة؛ لأنه حاضرٌ في العلوم الإنسانية وفي العلوم التجريبية على حد سواء. وقد استعين به في فك ألغاز بعض مشكلات العلوم الأحيائية العسيرة كما هي الحال في اقتراح أشكال لبنيات تحدد ترتيب وانتظام العناصر والجزيئات التي تبني الأغشية البلازمية. ونظرا إلى مكانة هذا المفهوم في علوم التربية، فإن مجلة “ASTER” التي يصدرها المعهد الوطني للبحث البيداغوجي في فرنسا، وهي مجلة راقية، خصصت له عددها السابع (1988) بأكمله، وقدمته إلى قرائها تحت عنوان: “نماذج ونمذجة”.

ليس مفهوم “النموذج” مفهوما قحا وأصيلا في اللغة العربية، وإنما هو متسللٌ دخيل على قواميسها. ومن باب الاحتمال الأكبر أنه رحل إليها من اللغة الفارسية بعد تحوير خفيف؛ لأن اللغات تمد أيديها وتأخذ من أوعية غيرها بلا استئذان. ومقابله في لغتنا، الذي يتطابق معه هو لفظة: “المنوال”. وأما تعريفه الذي يتوافق مع مجرى مقالنا المتواضع، فيمكن أن يكون: (ما يُتخذ مثالا أو قدوة أو أسوة للاحتذاء). وهذا التعريف يحمل في طياته ما يدل على تسهيل سبل الاستفادة من النماذج في شتى مجالات الحياة. وأما النمذجة فيُقصد بها إنشاء نموذج أو نماذج.

لنترك الظلال المذهبية جانبا، ونحاول النظر في النموذج المزابي من حيث عدد من مواصفاته التربوية والاجتماعية والعلائقية.

استثمر النموذج المزابي في الإنسان، وجعل منه عموده وركيزته الأولى، ورباه عبر مختلف أطوار حياته تربية مستقيمة حتى يكون رساليا واعيا بوجوده، ويسوق المنافع لنفسه ولأسرته ومجتمعه ووطنه بقدر قدراته الجسمية والعقلية والنفسية ومؤهلاته وما توفر بين يديه من إمكانات وموارد وأدوات. وجعل الحضن الأسري والمسجد والمدرسة والشارع أماكن تسهم في هذه التربية وفق رؤية متكاملة ومتواصلة.

يوفر هذا النموذج من جانبه التربوي التعليمَ الإلزامي في المدارس لكل الأطفال، ويضمن لهم تكافؤ الفرص وتساوي ظروف التعليم. ويعتمد المنهاج التربوي في هذا النموذج على الدين، إذ يجعل من المواد الدينية، وخاصة حفظ القرآن الكريم ومحاولة فهم آياته، ركيزته الأولى. وتليه اللغة العربية وما يتفرع عنها من نحو وصرف وإملاء، وغيرها. ولا تسقط من برامجها بقية المواد العلمية والتقنية واللغات الأخرى بشكل متدرج ومحسوب. والغرض من ذلك هو تطعيم النشء منذ الصغر، وتزويده بتربيةٍ قاعدية نابعة تقوِّي حصانته حتى لا يكون فريسة سهلة أمام هجمات الغزو الفكري والثقافي الذي لا تتوقف رياحُه الهوجاء من الهبوب من كل جانب. ويُختار لهذه الرسالة مربون أكفاء من ذوي الدراية والخبرة وملتزمون ومخلصون ومتفانون ومؤهلون علميا وبيداغوجيا، ولا يتهاونون ولا يتقاعسون؛ لأنهم يدركون أنهم مؤتمَنون على أغلى رأس مال في المجتمع. ولا يجوز أن تأخذهم الغفلة ولو لزمن قصير حتى لا يكونوا سببا في إفشال أو تعويق مشروع إعداد رجال المستقبل. وإن المناعة التكوينية التي يمنحها المسجد والمدرسة، وبشكل أخص، إلى المتعلمين هي الضمانة التي تجعل المجتمع مطمئنا على مستقبله ومرتاحا للصورة التي سيكون عليها غدُه. ويُنتقى المربُّون وفق معايير صارمة تتسع حتى تشمل ملاحظة سلوك الراغبين في الانضمام إلى سلك التعليم على مدى زمني معين؛ لأن نوع التربية التي يهفون إليها هي التربية بالقدوة، أولا. ولم تكن مخرجات هذه الفعل التربوي، في يوم من الأيام، معتلَّة أو ضحلة أو تشكو من نقص وقبح وشرم.

تبذُر هذه المدرسة الفضائل الحميدة، وتغرس المزايا الرفيعة في نفوس مرتاديها منذ نعومة أظافرهم، وتصقل مواهبهم، وتزيل أمام أعينهم غشاوات الانحسار والانكسار، وتخلِّصهم من أوهام الهزيمة والتواكل وترك الحبل على الغارب، وترمي بهم في معترك الحياة بعد تسليحهم، وتتركهم يشقون طرقها في راحة بال وبضمائر وثابة وذكية.

يعدُّ المجتمع المزابي مضربا للمثل من حيث تماسكه وتعاضده وتعاونه إلى حد تكاد أن تختفي الطبقية في جنباته. ويعدُّ نظام العشائر في مدن وادي مزاب من بين الصور الراقية في تشكيل المجتمع المدني، وتجنيد أفراده وتعبئتهم في كل المحطات لتحمُّل المسؤولية كل حسب طاقته ومستواه. وهو مجتمع متعاون في السراء والضراء، فالغني فيهم لا يتوقف عن خدمة فقيرهم، والفقير لا يحسُّ بالغبن والضعف، ولا يجعل من تحصيل رغيف أسرته اليومي همّا طاغيا. وبفضل التكافل الاجتماعي لا نصادف مظاهر البؤس والشقاء التي تعجُّ بها شوارع بقية مدننا. ويستحيل على المحتاج فيه أن يمد يده إلى غيره مستجديا ومستنجدا وشاكيا أمام الناس. وبفضل ذلك أصبح المحتاج عيوفا وأنوفا ولا يرضى أن ترمقه نظراتُ العطف ولو خلسة. وتعطينا أعراسهم الجماعية في فصلي الربيع والصيف نمطا جليا للقضاء على الفوارق الأسرية إذ يجلس العريس ابن العائلة الثرية إلى جنب أخيه الفقير.

يسلّم المزابيون بأن روافد ومراقد المال الحلال لا يمكن الوصول إليها إلا ببذل الجهد ومضاعفة الكد وسيلان عرق الجبين، أي بالعمل الدؤوب والتضحية المتواصلة ونبذ الكسل. ووجدوا في باب التجارة وسيلة فعالة لتحقيق مأربهم المادي. ولذا امتهنوها عن رغبة وتعلق، ونوّعوا منها حتى امتازوا بها وفازوا فيها، وإلى أن برق في أذهان الآخرين أن المزابي تاجرٌ بالفطرة. وضربوا أمثلة جمعوا فيها بين خِلال المواطن الصالح وخصال التاجر الناجح؛ لأنهم مارسوها بقلوب صادقة وأيد نظيفة لا تعرف الغش والتحايل والغدر في السلع، ولا تطفف في الوزن والمكيال والقياس، ولا تخلط النوع الرديء بالفاسد، وبذلك كسبوا قلوب زبائنهم في كل المدن التي هاجروا إليها، ووجدوا فيها من يرضى بمجاورتهم عن أخوَّة وحبّ بعد أن لمسوا في معدنهم السماحة واللطافة والطيبة الغزيرة. ومن جانبهم، لم ينكروا ما كان لأهل الشمال خاصة من فضلٍ عليهم، واعترفوا بمزيتهم في جملة لا يتوقفون عن ترديدها إظهارا للعرفان وحسن الامتنان، وفحواها بلهجتهم: “أغلان يتشرد سالتل”، و”أغلان” هو الموطن المتمثل في مدنهم أو قصورهم التي يسكنونها في الجنوب، والتي لم تكن لتنهض لولا هجرتهم إلى الشمال طلبا للرزق.

تيقن المجتمع المزابي من أن التفريط في عناصر الانتماء ولو في أصغر رمزياتها هو الثغر الذي يمكن أن تتسرب منه عوامل الهدم والمسخ. وبسبب ذلك بقي صارما في الشد عليها، ولم يضيعها. فقد يعتقد أن التمسك بالطاقية والقندورة البيضاوين والسروال التقليدي هي عناوين تشترك لصناعة التمايز وتجسيد الخصوصية، وإنما هي في واقع الأمر تشبث بما قصّر وتهاون فيه الآخرون، ورضوا باستبداله نتيجة هوى أو بسبب عقدة. وزادوا على ذلك أن جعلوا منها أدوات لنشر المساواة وللقضاء على الاختلاف حتى في زي اللباس الذي قد ينزلق ببعضهم إلى التباهي والتفاخر. ومن المرويات التي بلغتني عنهم أن جماعة من الشبان ضجروا من الالتزام بالطاقية، والشباب هي الفئة الأسهل للافتراس والسير في طريق التقليد الأجوف، فقصدوا شيخهم الجليل إبراهيم بيوض، وشكوه تذمُّرهم، فتبسَّم ورد عليهم بقوله: (إنني أشدد في لجاجة على ارتداء الطاقية خشية أن تضيع القندورة والسروال).

إن النموذج المزابي هو نموذجٌ لمجتمع بشري لا يخلو من بعض العيوب والنقائص، ولكنه أثبت جدارته ونجاحه وتفوُّقه، وأفصح عن نتائج تعاظمت إيجابياتها. ولا شك أنه نموذجٌ يقبل التقويم ويرضى بالتعديل والتكييف حتى لا يتوقف عطاؤُه الغني. وأرى أنه نموذجٌ جاهز يقبل التعميم للخروج من دائرة التخبط ومهاوي التجارب الفاشلة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • عبدو *

    الصحيح هو ( أنموذج ) و هي كلمه عربيه بدليلين
    الاول ان الزمخشري من ائمه اللغه سمى كتابه بالانموذج ولا يعقل لرجل بمكانه الزمخشري ان يتخذ كلمه فارسيه لاهم كتب النحو التي كتبها !!
    الثاني ان الكلمات الاعجميه لا تضاف اليها حروف و كلمه نموذج خطأ و الصحيح انموذج اما المقابل لها بالفارسيه ( نموذه ) فهناك الف و تحويل الهاء الى ج من الفارسيه فلا يمكن ان يطرأ تغيير كهذا على كلمه دخلت العربيه .
    الحقيقه انها كلمه عربيه و هناك شبيه لها من بعيد بالفارسيه ومن يكره العربيه يتأول و يتحجج بانها فارسيه و ازيد في قول القيرواني كدليل
    رغبت في الجنّة لما بدا
    أنموذجُ الجَنّة في شكله

  • seddik

    ida habbit taaref al jazayriyine fa arjaa ila al waraa kalilan fasataarif kaifa kan yalbis ahl achamal wa hal kanat roousohom aria am la wa hal tanafasou al kostume al firansi am anna al isilakha hadatha siwa moakharan

  • Boussoufa aziz

    شكرا لك استاذ امباركية نوار على هذا التوضيح عن المجتمع الميزابي الذي هو دائما في خدمة مجتمعه ووطنه تحيا الجزائر وشعبها الابي

  • ahmed

    نعم النموذج , لولا تلوثه بالافكار العنصرية والانفصالية مؤخرا لدى البعض.