-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هندسة الرؤية: عناصر منهجية

محمد سليم قلالة
  • 3265
  • 12
هندسة الرؤية: عناصر منهجية

إن بناء رؤية لبلد في حجم الجزائر لأجل الخروج من مأزق الفكر المتحجّر غير القادر على الابتكار القاتل للإبداع والأفكار المانع لإعادة بناء مكانة لنا في المستقبل، إنما يتطلب تفكيرا جماعيا مؤسَّسا على ضوابط منهجية يتعدى في كثير من الجوانب الجهد الفردي أو المبادرات المحدودة مهما كانت قوتها. ومع ذلك فإن طرح العناصر الفكرية الأولية يحتاج في كل الحالات إلى مبادرة من بعض الأفراد، وهو ما نسعى إليه خارج نطاق أي تفكير ذي بعد تكتيكي أو غاية مرحلية.

لذلك أردنا، عن قصد أن تكون هذه المساحة، مساهمة أولية في بلورة مشروع رؤية استشرافية من أجل الجزائر، أي من أجل الجميع، ويساهم فيها الجميع بغض النظر عن الزاوية التي سيُنظر من خلالها لهذا المستقبل، باعتبار أن  التفكير الاستشرافي هو بالأساس تفكير جماعي  تضبطه مرافقة منهجية حتى لا يحيد عن غايته ويصبح مجرد تصورات رغبوية لا تمتلك قاعدة في الواقع.

وعلى هذا الأساس رأينا اليوم  أن نطرح على القراء الكرام، كل في مجال تخصصه، وكل من منطلق إدراكه للمشكلة وأساليب حلها، وللسيناريو الذي يتوقعه لبلده، عناصر منهجية من شأنها أن تجعل الجهد الفكري الذي سيُبذل، يتركز في كل مرة على مسألة من المسائل حسب جدول الأولويات المتعارف عليه أكاديميا في هذا المجال.

وبدايتنا ستكون بطرح السؤال التالي: ما الفائدة من صياغة رؤية؟ وما علاقة ذلك ببناء المستقبل؟

إن الفائدة الأولى من صياغة رؤية، أية رؤية، هي إعطاء معنى للفعل الإنساني في أي مجل يتحرك ضمنه، بدونها تُصبح حركة الناس مجرد هدر للإمكانيات وللطاقة بجميع أنواعها… ولعلنا نعيش ذلك اليوم في كل لحظة من حياتنا، عندما نحس أن عمل المسؤول المباشر على قطاع ما، في أي مستوى كان، إنما يتم ضمن الاستعجال وخارج نطاق أية أهداف إستراتيجية بعيدة المدى:

نبني عشوائيا، نشق الطرقات، نقدم القروض، ونحاول بناء قاعدة اقتصادية للبلاد من غير أن تكون معالم بقية الطريق واضحة في أذهاننا.. نفتقد للاستمرارية  في العمل، وننزع نحو ربط الانجازات التي نقوم بها بأشخاص، أو هم يسعون لربط أنفسهم بها، لا يهمهم إن كان ذلك على حساب الأجيال القادمة أو حتى على حساب قدرات وإمكانيات الدولة الحالية، مادام الهدف هو اليوم وليس الغد، مادام الهدف أن أنجح أنا ولا يهم الآخرين، بل أحيانا نرفع شعار: أنا ومن بعدي الطوفان.

لذلك قلنا إن الفعل الإنساني لا يمكن أن يكون ذا معنى إذا لم يكن ضمن رؤية محددة. ولا يمكن للرؤية أن تكون محددة إذا لم تكن مؤسسة على إدراك منهجي للمنطلقات والرهانات والأفق المستقبلي والفواعل والأدوات المشكلة لها والقادرة على تقييمها أثناء الحركة. وبهذا المعنى تُصبح هي الإطار العام الذي يحكم الفعل والأداة المنهجية التي توجه تطوراته والوسيلة التي تغلف غايته، بدونها يتحرك خارج الإطار الزماني والمكاني الذي ينبغي أن يكون ضمنه، يفقد دلالاته وتتبدد طاقته ويَحيد عن المسار الإنساني الحامل للقيم في نطاق السعي لبناء دولة العدل والمساواة والحرية التي نصبو إليها.

وهو للأسف ما نعيشه اليوم، ونحن نشعر أن العمل الذي نقوم به يفتقد لهذا البعد المستقبلي الذي ينبغي أن يأخذه (باعتبار أننا أمة لا يمكنها أن تتحرك ضمن فراغ وبدون أية غاية)، وبدل أن يتحرك ضمن أهداف وغايات واضحة نجده يتحرك ضمن رؤية مشوهة وأحيانا منحرفة وأخرى بدون رؤية تماما. ونحن نعلم أن الفعل ونتائج الفعل تكون في مثل هذه الحالات مشوهة أو تبتعد عن غايتها إن لم تؤد إلى التخريب والتحطيم الذي يصل أحيانا إلى تحطيم إنسانية الإنسان. كما أصبح يتجلى لدى فئات من الناس يعيشون اليوم بيننا ولا يمتلكون أية صفة من صفات الإنسانية، بل من الصفات التي نمتلكها أبسط البشر، فلا نراهم  إلا وهم  يقومون بتخريب ممنهج للبلاد ، أو يقومون بتحطيم عشوائي لإرادة كل مخلص يحاول أن يقوم بعمل إيجابي نافع ضمن القيم السامية التي تربى في إطارها…

هذا الواقع المتأزم هو الذي جعلنا نطرح الحاجة اليوم  للقيام بهندسة رؤية  مستقبلية لبلادنا لعلها تتمكن من أن  تتجاوز كل هذا الاضطراب الحاصل لديها الآن جراء تحكم اللاّقدرة في القدرة، واللاّمنهج في المنهج، أو ما نُسمّيه عامة بتحكم الرداءة في الكفاءة كما يتجلى ذلك في أكثر من مستوى.

.

فماذا نقصد بهندسة الرؤية؟

نقصد بذلك، مجموع الخطوات المنهجية التي تمكننا من صوغها وربط الفعل الإنساني بها انطلاقا من قاعدتين أساسيتين:

ـ الأولى أن يتم ربط  هذه الرؤية بالفعل لا برد الفعل. أي  أن تستحدثه  Provoquer l_action وتستبقه  Anticiper l_action وتتوقع سيناريواته المستقبلية وأساليب التنفيذ البديلة من خلال الاستشراف الاستراتيجي La Prospective stratégique.  (Godet) وبهذا تصبح الرؤية هي النفي التام للحركة ضمن ردود الأفعال  التي يقوم بها الآخرون. كما يحدث اليوم حيث نادرا ما نجد عملا نقوم به على المستوى الفردي أو مؤسسات الدولة أو القرارات التي تؤخذ في أعلى مستوى ليس عبارة عن رد فعل تجاه ما قام به آخرون ممن يمتلكون رؤية وفي الغالب ما يكونوا فواعل أجنبية (الأمثلة كثيرة).

ـ الثانية ألا تتحرك وفق منطق  ما توفر من إمكانيات، إنما وفق منطق تحديد الطموحات أولا  حتى وإن كانت أكبر من الإمكانيات المتوفرة حاليا (Hamel, Prahold)، لتصبح رؤيتنا بالفعل تعبيرا عن إرادة، أي عن حلم يمكن أن ينجز بصفة إرادية  (Grefeuille) . وليس مجرد أوهام وخُطب جوفاء  نُدغدغ بها مشاعر الناس ونحقق بها أهدافا آنية.

ولذلك هي تتطلب إطارا عاما يتحرك ضمنه هذا الفعل تحكمه خمسة مسائل جوهرية هي التي تحكم بدورها هندسة الرؤية، هذه المسائل هي:

1ـ وضوح المفاهيم: تحديد قاعدة الانطلاق، النظرة للأسس بأثر رجعي، تفسير الإدراك السابق.

2ـ التمكن من آليات التحليل الاستشرافي: التوقعات، الاتجاهات، أشكال القطيعة المحتملة.

3ـ إعداد إطار الربط بين الاستشراف والإستراتجية

4ـ  بلورة التفكير الاستراتيجي

5ـ امتلاك القدرة على التقييم.

هذه المسائل التي ينبغي توضيحها مسبقا، ستمكننا من ضبط حدود مجال الرؤية لننطلق في بنائها عبر  ثمانية مراحل  متداخلة ولكنها مرتبة منهجيا نطرحها باختصار اليوم في انتظار الشروع في تحليلها لاحقا وهي:

1ـ تحديد الهُوية (الجذور، التاريخ، الثقافة، الكفاءات، القيم)

2ـ القيام بعملية استشراف استكشاقية Une prospective exploratoire  لصياغة السيناريو المرجعي.

3ـ تحديد الرهانات والتعرف على المعارك المحتملة التي سنخوضها.

4ـ معرفة الفاعلين المرجعيين les acteurs de référence

5ـ معرفة القاعدة الاستراتيجة والخيارات السياسية

6ـ التعرف على اتجاهات الرؤية Les visées

7ـ  التعرف على حوامل وروافع الرؤية Les vecteurs et Les leviers

8ـ تحديد آليات المتابعة والرقابة لتجسيد الرؤية في الواقع.

إن تحليل هذه المراحل وضبط معالمها هي التي ستمكننا في آخر المطاف من هندسة رؤية استشرافية لأجل الجزائر مستندة على قواعد المنهج العلمي، غير خاضعة للأهواء ولا تصب ضمن مشروع حزبي أو شخصي أو فئوي أو سياسي ضيق،  إنما ضمن مشروع  يحركه بحق الحب العميق لهذا لشعب ولهذه الأمة وهذا الوطن، والسعي الحثيث بكل الوسائل لخدمته  وخدمة الإنسانية جمعاء من خلاله.

.

من خلال هذا الفضاء الذي اقترحته عليّ هيئة تحرير الشروق سأحاول تقديم العناصر الأساسية لأجل بلورة رؤية مستقبلية لجزائر الغد، في انتظار أن يصلني المدد الفكري من العمق الشعبي بمختلف مستوياته باعتباره هو العمق الاستراتيجي لأية رؤية والمنطلق الأول لأية أفكار..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
12
  • hocine

    الخطوة جريئة ولكن المشكلة ليست في الافكار والمفكرين (بلد مالك بن نبي) ولاكن المشكلة هي الارادة السياسية.

  • عبدالرزاق

    في انتظار التوضيحات لاحقا يا استاد , لان موضوعك جدير بالاهتمام وقد ورد في مقالكم - نادرا ما نجد عملا ليس عبارة عن رد فعل - تحديد الطموحات ولو كانت اكبر من الامكانات , ارجو منكم استاد سياق امثلة من الواقع على مستوى الفرد كما على مستوى الدولة حتى نتمكن من المساهمة في اثراء الراْي , فموضوعك هندسة الراْي شائك ومعقد ولهدا لا يطرح الموضوع بشكل عمومي ادبي لان الاستراتجيات كثيرة ومتشعبة وقد تصلح العموميات هناك ولا تصلح هنالك , قطاعات كثيرة ومختلفة .ارجو ان يطغى عليه الطابع العلمي .

  • عبدالقادر

    ماتصبوا اليه استاذنا الكريم يوفاقك عليه الاغلبيةالساحقةمن الجزائريين وخاصة المثقفين المخلصين لله و للوطن وللشعب.من دون شك ان الولادةلمشروعك الرائع هذاستكون عسيرة جداوممكن انها تحتاج الى عمليةقيصرية لكن هذالاينفي ابدامن انه سيكون بذرة بعث كيان جديداسمه جزائر اللاالفيةالثالثةللقضاءعلى كل المناهج الفاسدةوالبرامج العقيمةوالوسائل الغيرمجديةوالاساليب البائدةوالطرق الملتووية التي سيرت وتسيربها امورالوطن والمواطنين والتي للاسف الشديد اسسهااشباه مثقفين من ديناصورات لاهم لهم الاكرسي الحكم والتحكم في الريع

  • قادة

    البلد الذي ينشئ وزارة من اجل ان تسشرف مستقبل البلاد و العباد و بعد ذلك بجرة قلم تلغى و كانها لم تكون فهذا ان دل على شيء يدل على ان الاسياد الذين لا رشاد و لا سداد لهم يعتبرون ذلك بانه ملهي و مفسد بعقول الشباب. فما دام انهم بفهمون للزمياطي كما يقول وزيرنا الاول فلاداعي للذين يستشرفون المستقبل من اجل الوصول بالشعب و الوطنللاحسن.اي الى مصاف الدول الراقية التي بنت حاضرها على اساس ماضيها وعاشت حاضرها بالاستفادة من دروس التاريخ وبنتا سسه على قاعدة متينةوسليمة تمكنها من ولوج المستقبل على درايةبمتطلباته

  • بدون اسم

    c'est une action populaire ,parceque le gouvernement à supprimer le ministère de planification

  • أبو ياسر

    بارك الله فيك، سر فإنك على الحق المبين، يبقى العمل الآن على صياغتها ولو في بعض المجالات وعدم انتظار كل المجالات خاصة المجال السياسي

  • Ahmed

    Trè bonne initiative, je vous recommande la lecture de Malek Bennabi : naissance d'une société et les conditions de la renaissance. Bonne lecture

  • حسام أبو فارس

    السلام عليكم، أنت تطرح فكرة أو مشروع لم يطرح منذ زمن، منذ أيام مالك بن نبي، لكن المشكلة هي أنه مهما وضعنا من رؤية إستراتيجية للجزائر فستبقى مجرد كلام، لأن السلطة وأصحاب القرار لا يهتمون بتطبيقها، بل لهم رؤيتهم الخاصة بمصالحهم الآنية والأنانية.

  • الزهرة البرية

    من نماذج عدم التخطيط المستقبلي ـ وبنظرة المواطن البسيط ـ ما نراه يوميا من إعادة نزع بلاط الأرصفة وحفر الطرقات المعبدة لأجل مد أنابيب الغاز أو قنوات الصرف ... أو إعادة توجيه أعمدة وأسلاك الكهرباء في خطوط جديدة بفعل بنايات بنيت تحتها وما يرافق هذا من هدر أمول طائلة... ومن هذه الأمثلة الكثير.

  • بدون اسم

    هذه الرؤية التي تقدمونها إن دلت على شيء إنما تدل على حمل هم هذا الوطن في قلوبكم وأقوالكم ، وعلى الوعي بما هو آت .
    شكرا لأنكم فتحتم هذا الفضاء حتى نستفيد من أفكار من يفوقوننا تجربة و علما وبالتالي نتحد كل بقدرته لبناء الوطن .

  • Med

    C'est une très bonne chose pour le pays. Que chacun contribue pour élaborer cette vision stratégique pour faire avancer le pays.
    Congratulations.

  • benattia

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أستاذي الكريم ماذا أقول لك وأنت أدرى بالحال وأنت من عينت على رأس وزارة جديدة تهتم بما تتحدث عنه الآن وفجأة اختفت أو أخفيت لعدم الحاجة إليها إننا أمة ابتعدت عن الله فأنساها نفسها فهل ستجد فيها من يفكر في استشراف المستقبل أخالك تتحدث لصبيان أو مجانين لايفهمون ما تقول ولا تستثني منهم أحد لا الأستاذ ولا الطبيب ولا المهندس ولا الوزير ولا المديرولا الأب ولا الأم الكل أصبح حيران لا يدري مايفعل فهل تعتقد أن لكلامك معنى في حس هكذا أمة اننا في حاجة الى اعادة صياغة