-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

واقعنا.. بين مصائب الدّنيا ومصائب الدّين!

سلطان بركاني
  • 1300
  • 0
واقعنا.. بين مصائب الدّنيا ومصائب الدّين!

روى الإمام الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كان قلّما يقومُ من مجلِسٍ حتى يدعُوَ بهؤلاءِ الدَّعَواتِ له ولأَصحابِه: “اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيك، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا. اللهمَّ متِّعْنَا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا، واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا، واجعَلْ ثَأْرَنا عَلَى مَنْ ظلَمَنا، وانصرْنا عَلَى مَنْ عادَانا، ولا تَجْعَلِ مُصِيبَتَنا في دينِنِا، ولَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا”.. دعاء من أروع وأنفع الأدعية الجامعة التي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وتعين العبد المؤمن على أن يعيش دنياه ويأخذ نصيبه منها، ويخلص النية لله في عمله، وعينه على الدّار الباقية دار الخلود.

ربّما يذهل كثير منّا عن ترديد هذا الدّعاء الجامع النّافع، ومنّا من لا يتذكّره إلا في رمضان، حينما يسمعه في دعاء القنوت في العشر الأواخر.. ربّما لا نعلم ولا نستشعر خطورة أن نُحرم هذا الخير العظيم الذي تحمله كلمات هذا الدّعاء.. لا نستشعر خطورة أن تخلو قلوبنا من خشية الله، أو يضعف وازع الخوف من الله في قلوبنا، فنقبل على الدّنيا بشره لا نعبأ بمكروه ولا حرام ولا حدّ من حدود الله.. ربّما لا نستشعر خطورة أن تسلم لنا دنيانا ونأخذ منها حظوظنا كاملة، ونصاب مع ذلك بأعظم المصائب في ديننا.. إنّها أعظم خسارة وأنكى مصيبة أن نصاب في ديننا ونحن لا نشعر.

كل كسر فإن الله يجبُره * وما لكسر قناة الدين جُبرانُ.

مصيبة أن يبدأ العبد المسلم يومه كلّ صباح بكبيرة من أكبر وأشنع الكبائر؛ كبيرة إضاعة صلاة الفجر، وهو يضحك ويمزح غير مبال ولا مكترث بعظيم الجرم الذي يقترفه: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُون﴾.. مصيبة أن يجرّ العبد المسلم قدميه كلّ أسبوع إلى الجمعة بجبين مقطّب ووجه عابس ونفس مثقلة، كأنّما يحمل جبال الدّنيا على ظهره، وهو الذي ينطلق إلى المقاهي كلّ يوم سريع الخطى نشيط النّفس باشّ الوجه.. مصيبة أن يتصفّح المسلم كلّ يوم مئات المنشورات وعشرات الرسائل على هاتفه، وهو الذي لا يقرأ صفحة واحدة من كتاب الله.. مصيبة أن يجلس المسلم مع أصدقائه وخلانه السّاعات المتوالية من دون كلل ولا ملل، ويبخل عن أمّه المسكينة أو والده المريض بلحظات يسلّي فيها نفسه ويجمّ فؤاده.. مصيبة أن يكون الزّوج المسلم حسن المعشر دمث الأخلاق مع الأحباب والخلان، بينما هو مع زوجته سبع ضار لا ترى منه وجها مبتسما ولا تسمع منه كلمة طيّبة.. مصيبة أن تتزيّن الزّوجة المسلمة عند خروجها لكلّ من هبّ ودبّ، وترضخ في عملها للأوامر وتحني رأسها أمام الإهانات، بينما تكشّر في وجه زوجها ولا تنفذ له أمرا ولا تلبّي له طلبا.

كثيرة هي الأحوال التي تدلّ على أنّنا -إلا من رحم الله- لا نتألّم، ولا نهتمّ لمصائب الدّين، ونحن الذين نتألّم ونشكو ونتأفّف لكلّ خدش صغير يصيب دنيانا.

مصيبة أن يصبح دين الواحد منّا ثوبا باليا مترهّلا.. وبلاء عظيم أن يشكو دينُ الواحد منّا حاله إلى الله، والعبد يضحك ويفرح غير مبال بالمصيبة التي أصيب بها، بينما يحزن ويتألّم ويملؤه الهمّ والغمّ إذا أصيب في دنياه.. على عكس الأوّلين من سلف هذه الأمّة المرضيين الذين كان الواحد منهم إذا أصيب ببليّة في شيء من دنياه يحمد الله على أنّ البلية كانت في دنياه ولم تكن في دينه.. هذا مثلا الإمام القاضي شريح –رحمه الله تعالى- يقول: “إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله -تعالى- عليها، أربع مرات: إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني للاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني”.. وهذا الإمام الزّاهد حاتم الأصمّ يقول: “فاتتني الصلاة بجماعة فعزّاني أبو إسحاق النجاري وحده، ولو مات لي ولد لعزّاني أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا”.. هكذا كان الأوّلون يستعظمون مصيبة الدّين؛ يحزن الواحد منهم لفوات صلاة الجماعة، إلى الحدّ الذي يجعل أحدهم يتصدّق ببستان له شغله عن الصّلاة، ويبكي الواحد منهم عندما يسبقه أخوه إلى الصّدقة، أمّا مصائب الدّنيا، فكانوا يستهونونها ولا يعظّمونها.. هذا أحدهم؛ كان أقرع الرأس (سقط شعره بمرض)، أبرص البدن (مرض جلدي)، أعمى العينين، مشلول القدمين واليدين، وكان يقول: “الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه، وفضلني عليهم تفضيلا”، فمر به رجل فقال له: مم عافاك؟ أعمى وأبرص وأقرع ومشلول؟ فمم عافاك؟ فقال: “ويحك يا رجل؛ جعل لي لسانا ذاكرًا، وقلبا شاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا”.. هكذا كانوا.. فكيف أصبحنا؟

لعلّه يكفي أن نعطي مثلا بتعاملنا مع بعض الامتحانات التي يجتازها أبناؤنا في هذه الدّنيا، امتحان الـBEM وامتحان BAC، ومسابقات التوظيف، وغيرها.. كيف نهتمّ ونحرص ونقدّم كلّ الأسباب ونعين أبناءنا ونوفّر أنسب الأجواء، ونعطيهم ما يكفي من الأموال، لأجل أن ينجحوا في هذه الامتحانات.. ومن حقّنا أن نهتمّ بهذه الامتحانات، والاهتمام بها مطلوب، لكن بالقدر المعقول الذي نتذكّر معه أنّها امتحانات دنيوية، الخسارة فيها ليست نهاية العالم ولا نهاية الدّنيا، بل هي خسارة يمكن أن تعوّض، وحتّى إن لم تعوّض فإنّ هناك بدائل أخرى كثيرة، وحتّى إن لم تكن هناك بدائل، فالأهمّ هو أن يسلم دين الواحد منّا.. مهمّ أن ينجحوا في امتحاناتهم الدّراسيّة، لكنّ الأهمّ هو أن ينجحوا في دينهم، ثمّ ينجحوا بفضل الله في آخرتهم، ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، المهمّ أن يكونوا ذرية صالحة نسعد بها في الدّنيا والآخرة.. المهمّ أن نراهم يحرصون على صلواتهم ويسابقوننا إلى المساجد ويحفظون القرآن، ويلتزمون آداب الدّين في مظاهرهم وأخلاقهم وكلماتهم وأحوالهم.. أسعد الآباء من جمع أبناؤهم بين خيري الدّنيا والآخرة، بين النّجاح في امتحانات الدّنيا والاهتمام بامتحان الدّين.. لكن إن نقصت دنيا أبنائنا، فيفترض ألا نحزن كما نحزن إذا نقص دينهم.

تجد الأب مثلا، ابنته ترفض لبس الحجاب، وتصرّ على لبس الضيّق من الثياب، فلا يكترث لأمرها ولا يحزن لحالها.. لكنّها إذا اجتازت امتحان البكالوريا وأخفقت، رأيته يحزن ويتألّم وربّما يبكي.. يرى ابنه مضيّعا صلاته، بل ربّما لا يحني رأسه لله ولا يعرف اتّجاه القبلة، فلا يشعر بأيّ حرج أو تقصير ولا يعاتب ابنه ولا يأمره ولا يزجره، وربّما يكلّمه مرّة ومرّتين فإن رآه مصرا على حاله سكت عنه وتركه لشأنه يسير في طريق تقوده إلى النّار، لكنّه حينما تظهر النّتائج ويجد أنّ ابنه لم ينجح، يحزن حزنا شديدا ويعاتب ابنه وزوجته وربّما يسبّ ويضرب ولا يجد شهية للطّعام ولا لذّة للنّوم، أياما متوالية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!