-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ورحل الدّاعية “عبد الله بانعمة”

سلطان بركاني
  • 1867
  • 0
ورحل الدّاعية “عبد الله بانعمة”

توفي ليلة الجمعة الماضية داعية شابّ، لعلّ أكثر شباب الأمّة لم يسمعوا بوفاته، كان مصابا بشلل رباعيّ لا يتحرّك منه غير رأسه، لكنّ همّته كانت أقوى وأعلى من همم آلاف الشّباب الذين يمتّعون بالصحّة والعافية ويسخّرون جوارحهم في معصية الله.. تاب الله عليه بعد حادث تعرّض له، فأصبح بعد توبته داعية ينصح الشّباب بالعودة إلى الله، ويحثّهم على ترك حياة المعاصي والمنكرات، والإقبال على الله والعيش في كنف طاعته ومرضاته.. إنّه الشابّ السعودي عبد الله بانعمة؛ اسم حفر في قلوب كثير من الشّباب الذين تابوا إلى الله وعرفوا طريق الاستقامة بفضل الله أولا، ثمّ بفضل تأثير كلماته التي يحسّ من يسمعها أنّها تخرج من أعماق قلبه.
روى عبد الله بانعمة قصّة إصابته بالشّلل الرباعي قبل 30 سنة، في العام 1993م، حينما كان في السابعة عشر من عمره، فقال: “في يوم من الأيام سألني والدي: هل تدخن يا عبد الله؟ فرفعت صوتي في وجهه حتّى أتملّص من الإجابة، وعققته ناسيا قول الله تعالى: «ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما»؛ ومن لحظتها بدأت مأساتي الحقيقية، حيث دعا عليّ والدي دعوة ليتها ما خرجت من فمه، ورغم أنه لم يقصدها إلا أنها صعدت إلى السماء مباشرة، حيث قال: «إذا كنت تُدخن فالله يكسر رقبتك».. سمعتُ كلماته من دون اهتمام ونمت، ثم صحوت في اليوم التالي وذهبت إلى المدرسة لأتفق مع أصحابي على الهروب والذهاب إلى الشاليهات للسباحة في مسبح متدرج العمق من متر ونصف المتر إلى ثلاثة أمتار. عندما قفزت إلى المسبح ارتطم رأسي بالأرضية، فانكسرت رقبتي، ومكثت حوالي 4 دقائق تحت الماء مر عليّ خلالها شريط حياتي كاملا رغم أنني أصبت بشلل رباعي بعد أن انكسرت الفقرات الثالثة والرابعة والخامسة.. أخرجوني من المسبح ونقلوني إلى المستشفى لأمكث به 4 سنوات أجرِيت لي خلالها 16 عملية جراحية ما بين صغيرة وكبيرة”.. ثمّ يعقّب الشابّ بانعمة قائلا: “لم يحصل لي هذا عبثا، ولكن لعلّ الله أراد أن يجعلني عبرة لغيري، لأبين للجميع أن قدرة الله فوق الجميع وأنّنا ما خلقنا في هذه الدّنيا عبثا، وأنّ الله ما منحنا الصحّة والعافية وحفظ لنا جوارحنا لنعصيه بها”.. ويضيف: “لقد بحثت عن السعادة وأنا صحيح معافى أمشي على قدميّ وبين يديّ كل مقومات الحياة، فلم أجدها، وبعدما فقدت كل هذه الأشياء أنا الآن أسعد إنسان”.
من بعد الحادث، وعلى مدار 30 سنة إلى يومنا هذا، قضى عبد الله بانعمة حياته يدعو إلى الله ويعظ الشّباب بقصّته ويذكّرهم بالهدف من وجودهم في هذه الحياة.. وحينما سئل عن أمنياته، أجاب إجابة يحسن بشبابنا أن يتأمّلوها جيّدا، قال: “أملك ثلاث أمنيات، بل حسرات: أولاها: كنت سابقا قادرا على السجود لله ولم أفعل، واليوم أشتاق إلى السجود ولا أستطيع.. ثاني أمنياتي: أن أقلب أوراق المصحف الشريف؛ كنت أستطيع ذلك قبل إصابتي ولكنّي لم أكن أفعل، وأنا الآن أقلبه إلكترونيا بالصوت.. الأمنية الثالثة: أتمنّى أن أدخل بيتي في مناسبة سعيدة كالأعياد أو غيرها وأحضن أمي وأقبل رأسها”.
رغم أنّ بانعمة عاش 30 سنة مشلولا شللا رباعيا، إلا أنّ حياته كانت بركة على أمّة الإسلام؛ اهتدى بكلماته آلاف الشّباب بحمد الله، وستظلّ مقاطعه على مواقع التواصل عملا صالحا يزيد الحسنات إلى صحيفته بعد موته، بإذن الله.
وَكانَت في حَياتِكَ لي عِظاتٌ * وَأَنتَ اليَومَ أَوعَظُ مِنكَ حَيّا.
عاش 30 سنة لله ولدين الله، نحسبه كذلك، ونحن الأصحّاء منّا من عاش 30 سنة و40 و50 وأكثر من ذلك بعد البلوغ؛ عاشها كلّها للدّنيا الفانية، لا همّ يشغله غير المآكل والمشارب والملابس والمراكب.. لم يقدّم لدين الله شيئا، بل لم يقدّم لنفسه إلا أعمالا قليلة لا تكفي لتنير قبره.. يصلّي صلاة مستعجل، ويتصدّق بالقليل حياءً من النّاس، ولا يدخل المسجد إلا يوم الجمعة، ولا يدخل المقبرة إلا مجاملة لقريب أو صديق.. فما أشدّ غفلتنا وأشدّ تعلّق قلوبنا بالدّنيا! نُمتَّع بالصحّة والعافية: أقدامنا تتحرّك، أيدينا تتحرّك، وألسنتنا تتحرّك، وعيوننا تبصر، وآذاننا تسمع، لكنّنا نسخّر نعم الله في معصية الله!
هناك في هذا العالم ما لا يقلّ عن 39 مليون شخص ابتلوا بفقد البصر، وملايين حرموا السّمع، وملايين لا يتحرّكون من أماكنهم، وملايين لا يحرّكون ألسنتهم… بينهم مسلمون يتمنّى الواحد منهم لو يسجد لله سجدة، ويتمنّى الواحد منهم لو يبصر طريقه إلى المسجد، ويتمنّى الواحد منهم لو يستطيع أن يقلّب أوراق المصحف… ونحن نُمتّع بالصحّة والعافية، ومع ذلك نهجر بيوت الله، ونهجر القرآن، وننقر صلاتنا ونتهاون في أوقاتها، وفوق ذلك نتقاتل ونتخاصم ويعادي بعضنا بعضا لأجل دنيا فانية زائلة!
والله لنَقفنّ بين يدي الله يوم القيامة لنُسأل عن أيدينا وأرجلنا وألسنتنا وأسماعنا وأبصارنا؛ ماذا عملنا بها، وفي أيّ شيء سخرناها.. فلنتب إلى الله ولنصلح أحوالنا، ولننظّم حياتنا، من الآن.. لا يجوز لأحد منّا أن يؤخّر التوبة، فلا يدري لعلّ أجله قد اقترب وهو لا يدري.. كم في المقابر ممّن كانوا يظنّون أنّ الأجل لا يزال بعيدا، وأنّ ملك الموت لن يزورهم حتّى يكونوا شيوخا، لكنّه زارهم وهم في ريعان الشّباب وقبض أرواحهم ونقلهم من دار العمل إلى دار الجزاء، وقد يكون بينهم الآن من يبكي في قبره على أيامه ولياليه وساعاته التي ضيّعها في الغفلة والمعاصي.. رحم الله الداعية عبد الله نعمة، وأسكنه فسيح جنّاته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!