-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وزارة التعليم العالي تُعِـيق الجامعة

وزارة التعليم العالي تُعِـيق الجامعة

أطلعتنا وكالة الأنباء الجزائرية، ورددت ذلك مختلف وسائل الإعلام أن وزير التعليم العالي يعتبر أن “مرحلة التجديد التي يفرضها تزايد أعداد حاملي شهادة الدكتوراه من سنة إلى أخرى يتطلب من القطاع توفير آليات تسمح لهم بالوصول إلى مناصب دون المساس بمسار البحث للأساتذة المتقاعدين”. هذا نقل حرفي لما صرح به السيد الوزير. وقد عجزنا عن فهم نهاية النص التي يقول “دون المساس بمسار البحث للأساتذة المتقاعدين”.

مغالطات وتصريحات متناقضة

وفي نفس السياق، جاء في بيان الوزارة أن قطاع التعليم العالي والبحث العلمي “يبقى في حاجة للاستفادة من خبرات هذه الفئة (فئة المتقاعدين) حسب احتياجات القطاع وفي إطار التنظيم الجاري العمل به، خاصة في مجال تأطير الأطروحات ومشاريع البحث العلمي، ودعوتهم للمشاركة في مختلف اللجان المتعلقة بتطوير البحث العلمي والتكنولوجي”. هذا كلام عام يحتاج إلى أكثر من توضيح وتدقيق إذ إن “إطار التنظيم الجاري العمل به” لا يرضي أبدا المتقاعدين.

جاء كل ذلك بمناسبة الإعلان عن إحالات على التقاعد قررتها الوزارة “تشمل 1236 أستاذ جامعي من بينهم 312 أستاذ استشفائي جامعي، أي ما يعادل 2% من أساتذة التعليم العالي والبحث العلمي من مختلف الرتب”. ومن كان وراء هذه العملية؟ يردّ بيان وزارة التعليم العالي أنها هي الفاعلة، وبطلب منها وافقت الوزارة الأولى. وأوضح الوزير أن الشروع في تطبيق إجراءات الأحكام المتعلقة بالإحالة على التقاعد للأساتذة الباحثين والباحثين الدائمين البالغين 70 سنة، يُعدّ “إجراء إداريا تتطلبه مرحلة التجديد التي تفرضها الأعداد المتزايدة لحاملي شهادة الدكتوراه في الجزائر”. هكذا يرى السيد الوزير هذا القرار… بأنه مجرّد “إجراء إداري”! بينما يراه أحد المعلقين في وسائل الإعلام أنه جريمة يُعاقب عليها مثل ما يُعاقب عليه القائم بعملية “إبادة جماعية”!

والواقع أن هناك مغالطة كبرى ومتعمدة، كثير ما يلجأ إليها المتلاعبون بالأرقام. ففي ما صدر من الوزارة من تصريحات، القول إن عدد المطلوب منهم مغادرة الجامعة يساوي 2% من “أساتذة التعليم العالي والبحث العلمي من مختلف الرتب” يعني في الحقيقة أن الوزارة أحالت على التقاعد في بضعة شهور وبجرة قلم 10% من سلك الأساتذة الجامعيين لأن معظم المحالين على التقاعد (1236 أستاذا)، إن لم يكن كلهم، هم ممن لهم أعلى درجة في سلك المدرسين (أي أستاذ التعليم العالي أو أستاذ محاضر أ). وهؤلاء يقومون فضلا عن التدريس بمهام بيداغوجية وعلمية وشبه إدارية، مثل الإشراف على المخابر وفرق البحث ومشاريع البحث ورئاسة اللجان المختلفة وعضوية المجالس العلمية وإصدار الكتاب والمجلات وإبرام الاتفاقيات مع المؤسسات العلمية في داخل البلاد وخارجها، إلخ.

تدمير ممنهج للجامعة

ولذا نسأل : ماذا يحدث في الجامعة عندما نحرمها بين عشية وضحاها من خدمات 10% من هؤلاء الأساتذة والباحثين المتميزين؟ ألا يندرج هذا في عملية ممنهجة ومدمرة لما تبقّى في الجامعة بحجة القضاء على البطالة ؟ ولعلّ القارئ لا يذكر أنه قبل نحو سنة، تم أيضا التخلص بنفس المنطق من الأساتذة الذين تجاوزت أعمارهم 75 سنة دون استثناء ودون غربلة لسيرتهم العلمية. ومن ثمّ فالقرار الأخير يمسّ أولئك الذي تتراوح أعمارهم بين 70 و 75 سنة. ووفق هذ القرار -إن لم يتم العدول عنه أو تعديله- ستتوالى سنة بعد سنة الإحالة على المعاش لأفواج من خيرة الأساتذة الذين ما زال لديهم ما يقدمونه للجامعة الجزائرية من خدمات جليلة.

لسنا هنا لتقييم الجامعة وسلك المدرسين فيها، لكن ذلك لا يمنعنا من إبداء ملاحظة من الأهمية بمكان تخص هذا الجيل الذي يُحال منذ سنتين على التقاعد من أساتذة الجامعات : إنه جيل له خصوصية غفلت عنها السلطات العليا حين اتخذت قرارها المأساوي : فأهل هذا الجيل من المخضرمين الذين درسوا خلال الفترة الاستعمارية، وحصلوا على البكالوريا عندما كانت من شقّين، الباك الأول (يجرى في السنة الثانية من مرحلة التعليم الثانوي) والباك الثاني الذي يجرى في نهاية السنة الثالثة. وكان ذلك في الوقت الذي كانت فيه نسبة النجاح في البكالوريا في جوار 20% ولم تكن تُقدر بـ 60% كما هو الحال في عصرنا هذا.

وليس هذا فحسب إذ إن هذا الجيل تلقّى دراسته الجامعية في جوّ لا مقارنة بينه وبين الجوّ الذي ساد خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حيث جدية التحصيل العلمي، وندرة الاكتظاظ في قاعات الدراسة وفي الإقامات الجامعية ومطاعمها. والأكثر من ذلك أن أعدادا معتبرة منهم واصلوا دراستهم في جامعات أجنبية متقدمة -لوفرة المنح الدراسية خلال السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات- ونالوا شهاداتهم العليا هناك، وعادوا إلى الوطن ليمارسوا مهنة التدريس في الجامعة، سيما في الاختصاصات العلمية.

نذكّر بكل هذا لنقول إن هذا الجيل هو عموما الجيل الذي حافظ أكثر من غيره على مستوى الجامعة المتلاشي وحُرمتها التي نرى بعض الشيء منها اليوم. هذا لا يعني أنه جيل من الملائكة، لكنه جيل وفرت له الدولة كل الأسباب التي جعلت منه حسن التكوين فأدى مهامه وواجباته بما يقتضي الحال على وجه العموم.

فهل يُعقل أن تبرّر البطالة تعويض هذا الجيل بحملة دكتوراه ل. م. د؟ هذا النظام الدراسي الذي يعرف القاصي والداني متاعبه، وما فتئ مسؤولو وزارة التعليم العالي خلال السنوات الأخيرة ينتقدونه ويعدّدون مساوئه ويَعِدون بإصلاحه لِما خلّفه من تندني في مستوى أداء الجامعة… ولم يفعلوا. نحن لا نحمّل بكلامنا هذا الحاصلين على هذه الدكتوراه مساوئ النظام الدراسي، بل نؤكد أنهم من ضحاياه… إلا من رحم ربي.

 إجراءات تقلص البطالة

لا نعتقد أن وزارة التعليم العالي جادة في معالجة مشكل البطالة، بل توجهت –كما يفعل جلّ المسؤولين عندنا- إلى الحل السهل حتى لو كانت عواقبه وخيمة بعد فترة، وهو الحل المتمثّل في الإحالة على التقاعد وتعويض المتقاعدين بالدكاترة البطالين؛ بينما يقتضي صالح الجامعة وصالح هؤلاء العاطلين عن العمل القيام بثلاثة إجراءات جريئة، وهي :

– أن تقوم الوزارة بتقليص الاكتظاظ في الجامعات وفي قاعاتها ومدرجاتها بتوظيف هؤلاء الدكاترة. هل يُعقل مثلا أن يجد الأستاذ نفسه أمام كتلة من الطلبة تفوق 500 نسمة في المدرج دون أن نفكر في توظيف المزيد من الأساتذة؟

– أن تتخلص الجامعة من سلك المدرسين الذين لهم نشاط خارج الجامعة لا صلة له بنشاط الأستاذ الباحث. ولعل أبرز هذه النشاطات هي المهن الحرة (المحاماة، وكالات التوثيق والمحال التجارية…).

– قضية الساعات الإضافية في الجامعات : لماذا نطلب من الأساتذة الدائمين تقديم دروس بالساعات الإضافية (آلاف الساعات) لتغطية العجز في سلك المدرسين في مختلف المؤسسات؟ لماذا لا يُوظف الدكاترة العاطلون عن العمل لتغطيتها كموظفين دائمين؟ بالنظر إلى حجم هذا العجز فبإمكان هذا الإجراء تقليص عدد البطالين بالمئات إن لم يكن بالآلاف.

كل هذا للتأكيد بأن وزارة التعليم، بدل أن تتعمق في إيجاد الحلول المناسبة لرفع مستوى جامعتنا والابتعاد عن إعاقة مسيرتها، تواصل إغراقها عبر اتخاذ قرارات ارتجالية غير مبالية بتداعياتها الكارثية بعد سنة أو سنتين. فمتى تدرك وزارتنا أنه حان الوقت للتخلّي عن سياسة الهروب إلى الأمام في تسيير شؤون الجامعة؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!