-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب

ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب

“وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” البقرة/179.

من عَلِمَ حكم الله في أمر، ثمّ اعتقد أنّ غيره أحفظ للمصلحة، وأقربُ إلى العدل،

فقد تطاول على الله، واستخفَّ بأحكامه وحدوده.

هذا ما كتبتُه، منذ سنوات؛ وذكّرتُ به في مناسبات، حين تعالت أصوات تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام، وأخرى تنادي بتطبيق القصاص وتشديد العقوبات. كان ذلك في ظلّ تزايد الخطر من حالات اختطاف الأطفال، وتفشّي جرائم القتل والاغتصاب؛ فضلا عن التعدّي على الأشخاص، وانتهاك الحرمات، والسطو على الممتلكات، ونهب الأموال.

وقد عاد الجدل، بهذا الشأن، بعد وقوع الجريمة النكراء، الّتي شهدتها بلادنا، ولم يسبق لها مثيل، في نوعية منفّذيها والمحرّضين عليها، وجمهور المحتفين بشهودها. فكان من الواجب بيان الأمر للنّاس، لكي تتّضح الرؤية، في ضوء مبادئ الإسلام، وأحكام شريعته. والإسلام هو دين الدّولة، كما ينصّ على ذلك دستور الدّولة.

إنّ شعبنا الّذي يتمسّك بالإسلام، منذ أن هداه الله إليه، يتطلّع إلى إقامة الميزان، الذي أنزله الله مع الكتاب، ليقوم النّاس بالقسط، ولا يخسروا الميزان، كما جاء في سورة الحديد وسورة الرحمن: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الحديد/25.{..وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} الرحمن. إنّه ميزان الحقّ الّذي لا يشوبه باطل، وميزان الهدى اّلذي لا يغشّيه ضلال.

شعبنا المسلم يتطلّع إلى دولة تُرفع فيها للحقّ كلمتُه، وتُؤيَّد دعوتُه، وتعلو رايتُه. شعبنا يتطلّع إلى دولة الحقّ والعدل؛ ويحدوه الأمل في عدالة مستقلّة رشيدة، تُعيد الحقّ إلى كلّ مظلوم أو مهضوم، وتنصف كلّ مغبون أو محروم؛ وتقيم حسابا عادلا لكلّ مقصّر ومفرّط، وعقابا رادعا لكلّ مجرم ومفسد.

إنّ ما يجب أن يعلمه النّاس أنّ الأحكام الشرعية واجبة التطبيق، فهي ليست من وضع البشر، حتّى تخضع للآراء والأهواء؛ ولكنّها من وضع الحكيم الخبير الذي يعلم ما يصلح الإنسان في دينه ودنياه. فهو سبحانه خالق الإنسان؛ وهو أعلم بما يُصلح حاله ويحفظ حياته؛ وهو الرؤوف الرحيم بعباده: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الملك/14.

والأمر الّذي نحن بصدد بيانه يتعلّق بحكم شرعه الله، بنصّ القرآن، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة/178. والآية تدلّ على مشروعية القصاص في القتلى. وتعدّ إقامة القصاص واجبًا أساسيًا وفرضًا على وليّ الأمر، في كلّ زمان ومكان. ولا يجوز لأحد إلغاؤه أو تعطيله، تحت أيّ ذريعة؛ لأنّه بذلك يعطّل ما فيه حفظ للنفس البشرية، ورحمة للناس، وكفّ للشرّ عنهم. ومن رحمة الله بعباده أنّه فرض القصاص، في القتل، وشرع العفو والدّية، إذا وقع الرّضا، وعفي للقاتل عن جنايته، من جهة أخيه وليّ الدّم، بأن صفح عنه من القصاص الواجب عليه.

إنّ عقوبة القصاص الّتي شرعها الله ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل، ولا تقبل الإلغاء. فهو حكمٌ إلهي بنصّ قطعيّ، لا يملك أحد صلاحية إلغائه أو تبديله. فالإنسان يكون له رأي أو اجتهاد فيما لم يرد فيه نصّ من الكتاب أو السّنة. أمّا ما وضّحه الله وبيَّنَ حقيقته، فليس للإنسان فيه اختيار، يقبل أو يرفض. والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} الأحزاب/36. فالاختيار لا يكون إلاّ إذا التبسَ الأمرُ، ولم يتّضح؛ أو كان له وجوهٌ من الاحتمالات، أمّا إذا عُلم حكم الله، فيجب أن ينتهي حقّ الإنسان في الاختيار. ومن عَلِمَ حكم الله في أمر، ثمّ اعتقد أنّ غيره أحفظ للمصلحة وأقرب إلى العدل، فقد تطاول على الله، واستخفَّ بأحكامه وحدوده. فإذا تجرّأ الإنسان، واختار غير ما اختاره الله، كان عاصيا لربّه، رافضا لشرعه؛ ولن تكون عاقبته سوى الضياع والخسران؛ كما جاء في آخر الآية.

إنَّ العقوبات في الإسلام مناسبة للجرائم الّتي توجبها. وإزهاق الأرواح، والاختطاف والاغتصاب، والفساد في الأرض، بنهب المال العام، وإهدار الثروات، وترويج المخدّرات، كلّها جرائم شنيعة؛ فيجب أن يكون العقاب على اقترافها شديدًا، لما تُحدثه من أسوء الآثار، في الأفراد والمجتمعات. ويعود إلى القضاء المستقلّ تقدير العقوبة، والحكم على مستحقّها، بعد ثبوت مسؤوليته على اقتراف الجريمة.

وفيما يتعلّق بعقوبة قاتل النفس، فقد سمّاها الله «القصاص»، أي المساواة بين الجريمة والجزاء؛ وقد شُرعت لِحِكَمٍ ومقاصد عظيمة. وأحكام الله كلّها تنطوي على حِكَم قد ندركها، وقد تخفى علينا. ومن حكم مشروعية القصاص حماية المجتمع من الجريمة، وتوطيد الأمن واستئصال الفساد. ولا شكّ في أنّ ترك الجاني من غير عقوبة القصاص يجعل المجتمع يعيش تداعيات الجرائم، بكلّ ما تثيره من فتن، وما تفرزه من اضطرابات اجتماعية.

وعقوبة القصاص قدّرها الله عزّ وجلّ. ومادامت العقوبة من الله فهي جزاءٌ عادل من خالق البشر، وُضعت لانتهاك حقٍّ من حقوق الله أو حقوق العباد. وإعدام الجناة يهدف إلى تحقيق العدالة بين الجريمة والعقوبة؛ وذلك بتطبيق القصاص في حالة القتل. ولا تكون المساواة بين قتل النفس عمدًا وبين العقوبة، إلاّ إذا نال الجاني جزاءه المستحقّ. وليس من العدالة أبدا أن يُعاقَب المجرم بالسجن المؤبّد، وقد تُخفَّف عقوبتُه؛ وقد يكون العفو عنه بإطلاق سراحه، جزاء إزهاق روح إنسان بغير حقّ. والواقع العمليّ يبيّن أنّ هؤلاء المجرمين، ما إن يُفرج عنهم، حتى يعودوا إلى اقتراف الجرائم، وتهديد المجتمع في أمنه وسلامته. وما من شكّ في أنّ عدم تطبيق عقوبة القصاص على الجناة تشجّع المنحرفين، فيتجرّأون على ارتكاب الجرائم، دون اكتراث بالعقوبة، مادامت بعيدة عن عقوبة الإعدام.

وإذا كنّا نعلم أنّ تطبيق هذه العقوبة لن يقضي نهائيا على جرائم القتل، فإنّنا على يقين بأنّها تشكّل رادعا قويًّا؛ وقد أثبتت فعاليتها؛ في إصلاح الفرد والمجتمع. فالواقع يثبت أنّ إعدام الجناة هي العقوبة المؤكّدة التي تردع المجرمين، ويمكن بها التخلّصُ من المنحرفين الذين اعتلَّت نفوسُهم وقست قلوبُهم، واقترفوا الجرائم النكراء التي تهزّ كيان المجتمع، وتهدّد نظامه العام ومصالحه الأساسية.

فالإنسان الّذي ليس له ضميرٌ ولا وازع دينيّ أو مراقبة داخلية، تردعه العقوبة الصارمة؛ فيسلم الناس من شرّه. وقد أثبت التاريخ أنّ الحدود، حين أقيمت في عصور الإسلام الزاهية، أمِنَ الناس على أرواحهم وممتلكاتهم. أمَّا في حالات إلغاء هذا التشريع الحكيم العادل، أو تعطيله، فإنّ القتل يفشو بين الناس، كما تفشو كثير من الجنايات، ويهون أمر الدماء على الناس. ومن هنا، نفهم قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة/179.

إنّ الّذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام ينطلقون من مبادئ حقوق الإنسان، بخلفيات فكرية، ونظرة غربية لا تكترث بالآخرين، ولا تحفل بدينهم ولا بثقافتهم؛ ولا تقيم وزنا لخصوصياتهم وطريقة حياتهم. وكأنّ مقياس الرقيّ في سلّم الحضارة والتقدّم يكمن عندهم في التبعية لبلدان توصف بالمتقدّمة والديمقراطية؛ وترفع شعارات حقوق الإنسان؛ وتعتبر الإعدام نوعا من القسوة والوحشية. وهذه الدول ذاتها تعمل باستمرار لتطوير وسائل الدمار الشامل؛ وتوغل في العدوان على الشعوب المستضعفة، بالأسلحة الفتّاكة. وكان حرّيًا بالمنظّمات الإنسانية الّتي تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام أن تتّجه بمطالبها إلى دول الاستكبار، وتعارض الحروب الّتي تشنّها على الآمنين؛ وترتكبُ جرائم إبادة، يذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء، من الأطفال والشيوخ والنساء.

ونحن، حين نستنكر أيّ دعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام، فلأنّ الأمر هنا يتعلّق بحكم شرعه الله، بنصّ القرآن؛ ولا اجتهادَ مع النصّ. نحن المسلمين نؤمن بأنّ الله أوجب حفظ الحياة، وحرّم التعدّي عليها، بأيّ شكل من الأشكال؛ وشرع ما يزجر المعتدي عن اعتدائه؛ ففرض القصاص، وهو تشريعٌ لا يهدف إلى الانتقام من القاتل، وإنما يهدف، أوّلا وبالذات، إلى تحصين حياة الناس، وحفظ أرواحهم، وتحقيق أمنهم. وهنا يجدر التذكيرُ بأنّ قيمة الحياة البشرية قيمة واحدة، والتعدّي على حياة شخص واحد يعتبر في شرع الله تعدّيا على الحياة كلّها.يقول الله تعالى: {..مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً..} المائدة/32. فإذا كان القاتل لنفس واحدة متعدّيا على البشر جميعا فإنّ الّذي أحيا نفسا بشرية واحدة، وحماها ممّا يهدّدها، هو صديق الحياة البشرية كلّها.

وخلاصة القول: إنّ شعبنا يريد أن تمتدّ يد الإصلاح لكي تمحو آثار الفساد، وتطهّر الأرض من أشواك الجاهلين، وانحرافات المفسدين. وإنّ هذه الآفات والانحرافات، يجب أن يعجّل بدرء خطرها أولياءُ الأمور؛ فهم القادرون على إيقاف هذا الزحف الهائل من الجرائم، الّتي تعرّض الأمّة كلّها لمزيد من المخاطر. عليهم أن يعملوا، دون هوادة، لتنقية البيئة الإعلامية والثقافية والاجتماعية من العابثين بأخلاق الأمّة وقيمها، ومقوّمات وحدتها الجامعة، بلا ضابط ولا زاجر، ومن غير وازع ولا رادع. وإنّ الله لَيزَعُ بالسلطان مالا يزع بالقرآن.

وما من شكّ في أنّ الوقاية خيرٌ من العلاج؛ والحذر من مَواطن الخطر أجدى من محاولة النجاة منها، بعد الوقوع فيها. وإن ممّا عرف من حالنا أنّنا لا ننتبه للضّرر إلاّ بعد استفحال الخطر؛ ولا نبحث عن العلاج والدّواء، إلاّ بعد تحكّم العلّة وانتشار الدّاء. وما كان للخلل أن يتّسع، ولا للأمل أن ينحسر، إلاّ لِأنّ القانون لا يجد أحيانا سبيله إلى التطبيق؛ فضلا عمّا يلاحظه النّاس من تضارب وتناقض بين مضامين النصوص القانونية والواقع الممارَس في الميدان. فالترجمة الأمينة للقوانين والنصوص الأساسية هي مسؤولية أولياء الأمور، كلّ من موقع عمله ودرجة مسؤوليته. وإنّ كلّ إصلاح يُنْشَد، وكلّ تشريع يُعتمد، إنّما يكتسب معناه، ويحقّق هدفه وجدواه، بفضل السّهر الواعي على التطبيق الحازم السّليم، والممارسة العملية الصّحيحة.

والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل. وهو وليّ الإعانة والتوفيق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!