الرأي

وللإسلام السّياحي سياساته!

سلطان بركاني
  • 2664
  • 11

شرف كبير خصّني به الأستاذ ياسين بن عبيد، صاحب ديوان “الوهج العذريّ”، وهو يتفضّل بمناقشة مقالي الذي نشر على جريدة الشّروق بتاريخ 14/05/2014م، تحت عنوان “الإسلام السّياحي لمواجهة الإسلام السياسيّ والإسلام المدخليّ لمواجهة الإسلام الجهاديّ”، في مقاله الذي نشر بتاريخ 26/05/2014م، تحت عنوان “وللإسلام السّياسيّ سياحاته!”، ولا يضرّني بعد هذا الشّرف أن يرميني الأستاذ بما عرفه عنّي من خلال قراءته العرفانيّة لمنطلقات وخلفيات ومصادر مقالي المشار إليه. فأنا في البداية والنّهاية على عقيدة “عجائز نيسابور”، التي مات عليها الإمام الجوينيّ رحمه الله. ولست من “العارفين” ولا من “المريدين”، ولا من “ندماء الوُجد الصّوفي”، حتى يخاطبني الأستاذ بأرقّ عباراته التي استخدمها وهو يهدي ديوانه إلى الحلاّج والنّدماء وعشّاق الحقيقة الإلهيّة.

ما أعتبه على أستاذي المحترم أنّه حرم قرّاء الشّروق الإفادةَ من مقاله، وبدلا من أن يفنّد الأدلّة التي استندتُ إليها في اتّهام الغرب بالسّعي إلى استغلال التصوّف والتمسلف الإرجائيّ لحرب الإسلام الأصوليّ، واتّهام كثير من المتصوّفة والمتمسلفة بالغفلة عن الدّور الذي يريد لهم الغرب وأذنابه أن يلعبوه، وهي الأدلّة التي لم تأتِ بشيء جديد في هذا الباب بالنّظر إلى الشّواهد التي ذكرها بعض مؤرّخي الإسلام عن تماهي كثير من أقطاب وأتباع الاتّجاهين الصّوفيّ والإرجائيّ في خدمة أهداف الاستعمار في كثير من مراحل التاريخ؛ بدلا من تفنيد هذه الأدلّة التي أكّدتها شواهد الواقع المعاصر من خلال الزّيارات واللّقاءات التي عقدها سفراء أمريكا مع شيوخ الطّرق الصّوفية في أكثر من بلد عربيّ؛ أغرق الأستاذ بن عبيد في وصف المقال ووصف صاحبه، والإصرار على تصنيفه واتّهامه في دوافعه ومنطلقاته والاشتباه في مصادره، ليس لأنّه تجرأ على انتقاد التصوّف فحسب، وإنّما أيضا لأنّ صورته المرفقة بالمقال تجعله- ولو صمَتَ صمْت القبور- متّهما حتى تثبت براءته، وهو ما لم يستطع الأستاذ أن يتركه حبيسَ نفسه، فأقحم الحديث عن اللّحية والقميص في غير محلّه، ليتطوّع بتقديم الدّليل الواضح على أنّه ينطلق من دافع إيديولوجيّ غارق في التعصّب بنوعيه، في الوقت الذي يستنكر على غيره اللّجوء إلى الكتابة الإيديولوجية ويجعلها سبّة في حقّه، ومدعاة للتّشكيك في كلّ ما يطرحه صاحبها، وهي الحجّة التي جعلت الكاتب يكتفي في ردّه على الوثائق والوقائع التي أشرتُ إليها بقوله إنّها مدعاة للمراجعة والتثبّت.

وكان الأولى في حقّه، وهو الأستاذ الأكاديميّ، الذي يعيش زمن المعلومة المشاعة، أن يراجع ما قال إنّه يحتاج إلى المراجعة، ويأتينا بالخبر اليقين، لعلّنا نسعد باكتشاف أنّ التصوّف الإسلاميّ على اختلاف طرقه وطرائقه عصيّ على المؤامرات الغربية، ولمَ لا إدراك أنّه تمّ استغلال الإسلام الأصوليّ بمختلف أقطابه لمهاجمة التصوّف- الذي يزعج الغربَ انتشارُه!- وإغرائه بمنابذة الأنظمة العربيّة  المعادية للصّهاينة!- وهي النتيجة التي قفز إليها الأستاذ بن عبيد من دون أن يحتاج إلى مقدّمات ومقارنات، عندما اتّهمني بالاغتراف من كتابات السّوبرمان الصّهيونيّ العابر للقارات “برنار ليفي”، الذي يسعى إلى إيجاد حلفاء وهميين للصّهاينة ليسوا من المتصوّفة ولا من العلمانيين، وإنّما من أنصار الإسلام السياسيّ، ممّن يرى برنار ليفي نفسه أنّ نزعتهم الإسلامية تهدّد الغرب تماماً كما هدّدتها الفاشية من قبل.

لا شكّ أنّ مثل هذه التّهمة التي جعلها الإعلام العربيّ الرّسميّ وشبه الرّسميّ من المسلّمات في حقّ الإسلاميين، لا يحتاج معها الأستاذ بن عبيد إلى نقل نصوصٍ أو سرد وقائع تثبت صحّتها! تماما كما لم يكن الإعلام الموالي للانقلاب العسكري في مصر في حاجة إلى دليل لإثبات عمالة الإخوان المسلمين للصّهاينة، ولو أدّى به ذلك إلى غضّ السّمع والبصر عن الحقائق المتواترة- بالصّوت والصّورة- التي تثبت دعم الصهاينة لنظام الانقلاب ودفاعهم المستميت عن السيسي واحتفائهم بفتوحاته المباركة ضدّ الإخوان المسلمين.

ولعلّ أستاذنا لا يرى في هذا التّحوير الذي مال إلى اعتماده أيّ صلة بالتعالم المشوَّه والمشوِّه الذي رماني به، لأنّه فوق أن يحتاج إلى عرض الدّعاوى على الواقع، وبالتالي ليس معنيا بحمل نفسه على مقارنات تفضي إلى الأحكام الهادئة! باستثناء مقارنته بين إشراف الصّهاينة على مؤتمرٍ عقد في الجامعة العبرية عن التصوّف، وبين تدريس بعض الجامعات العربية والإسلامية للّغة العبرية! وكأنّ إسرائيل تفضّلت برعايتها السّامية لهذا المؤتمر لأجل مناقشة السّبل النّاجعة لحرب التصوّف، وليس لدعمه!

وتتوالى مفارقات الأستاذ بن عبيد الذي أبى إلا أن يعطي بنفسه دليلا آخر على وقوع كثير من المتصوّفة ضحايا للاستغلال الغربيّ، عندما يردّد التّهمة التي يكيلها أذناب هذا الغرب من العلمانيين واللادينيين والمتقاطعين معهم لأتباع الإسلام السياسي، بأنّهم يركبون الدّين إلى الدّنيا، وهي التّهمة التي تأتي في سياق تنفيذ توصيات تقرير مؤسّسة راند الصّادر سنة 2004م بعنوان “الإسلام المدنيّ الديمقراطي”، والذي نبّه إلى أساليب عملية ينبغي اعتمادها لمواجهة “المسلمين الأصوليين”، ذكر منها: دفع الصّحفيين للبحث عن جميع المعلومات والوسائل التي تشوّه سمعتهم وتبيّن فسادهم ونفاقهم وسوء أدبهم وقلّة إيمانهم، وإظهار علاقات واتّصالات مشبوهة وغير قانونية لهم. ولعلّ هذا ما حدا بالأستاذ إلى رميي بشبهة التواطؤ مع الموساد، لا لشيء إلا لأنّي استندت إلى ما اعتبَرَه تسريباتٍ يَضِنُّ بها الكيان اليهودي حتى على أصدقائه!

ولو تريّث أستاذنا قليلا وكلّف نفسه شيئا من عناء البحث عمّا أقرّ بأنّه يحتاج إلى التحرّي والبحث، لوجد أنّ توصيات مؤتمر هرتسليا السّنويّ نشرت جميعها في وسائل الإعلام، وكانت محلا للنقاش في الصّحافة الإسرائيلية، لأنّ الصّهاينة يعلمون أنّنا لا نقرأ، وإذا قرأنا فإنّنا إمّا أن نرضخ للأمر الواقع، وإمّا أن نكتفي بالتّكذيب. وهذا الخيار الأخير هو الذي مال إليه الأستاذ وهو يجزم بأنّ القول برعاية الأجهزة الإسرائيلية للإسلام الصّوفي “ما هو سوى قفز على الحقيقة ارتبط بالمُحْبَطين من أنصار الإسلام السياسي، ووَجَّهَ عنايتهم إلى المتصوفة أكثر ممّا وجَّهَها إلى أعداء الجميع”.

 وكالعادة، فالأستاذ لا يرى في كلامه هذا قفزا على الحقائق التي رسّختها الوقائع المتواترة عن انشغال كثير من المتصوّفة عن مقارعة أعداء الأمّة بتنفيذ أجندات الغرب وأذنابه في حقّ أنصار الإسلام السّياسيّ! ولعلّ المثال الحاضر لهذه الحقيقة هو إصرار الكاتب على ترديد تهمة الإرهاب التي لا يملّ الإعلام العلماني المأجور من إلصاقها بالإسلاميين وجعلها حكرا عليهم، متغاضيا عن الإرهاب الصّهيوني للمسلمين في فلسطين ولبنان، وعن الإرهاب الصّليبي لأهل القبلة في العراق وأفغانستان وإفريقيا الوسطى ومالي والصّومال، وإرهاب بعض الأنظمة العربية لمعارضيها!

كلّ هذه الأنواع من الإرهاب لا يكاد يلوي لها خصوم الإسلام السّياسيّ أعناقهم، في الوقت الذي يصرّون على إلصاق التّهمة بخصومهم الدّائمين رغم تأكيدهم على إدانة الإرهاب في حقّ المسلمين. وفي هذا السياق يندرج تبنّي الأستاذ بن عبيد اتّهام أتباع الإسلام السياسي بالتسبّب في اغتيال الشّيخ البوطي رحمه الله-، لأنّهم حسبه- وفّروا الغطاء لأتباع الجماعات المتطرّفة ليفعلوا فعلتهم الشّنعاء هذه، وبغضّ النّظر عن حقيقة من يقف وراء هذه الجريمة التي دانها واستنكرها رموز الإسلام السياسي، فإنّنا كنّا نتمنّى للأستاذ أن يتريّث قليلا ويعقد مقارنة بسيطة في إطار المقارنات التي يطالب بها غيره- بين هذه الواقعة التي تلصق زورا بالإسلاميين وبين الفتاوى الصّريحة والواضحة لبعض رموز الصّوفية في مصر والقاضية بتكفير الإخوان المسلمين وإباحة دمائهم وأموالهم.

 وفي هذا الصّدد تبرز الفتوى التاريخية التي أصدرها الدّكتور علي جمعة، المفتي السابق وأحد أقطاب الصوفية في مصر، وحرّض فيها رجال الجيش والشّرطة على قتل الإخوان المسلمين، باعتبارهم خوارجَ العصر وكلابَ أهل النّار، وأوباشًا رائحتهم نتنة يجب تطهير مصر منهم!

والحقّ أنّ فتاوى علي جمعة ما هي إلا امتداد لسياسة أصيلة لدى كثير من رموز الاتجاه الصوفيّ في الانشغال بتكفير المخالفين والوشاية بهم إلى الأنظمة والسّعي في هدر دمائهم، وقد سجّل التاريخ بمداد الأسى أنّه في الوقت الذي كان ابن تيمية منشغلا بالردّ على الفلاسفة والملاحدة والدّهريين، ودكّ شبهات اليهود والنصارى والباطنيين، وفي الوقت الذي كان يشحذ الهمم لقتال التتار، ويتقدّم الصّفوف في ساحات النّزال، كان بعض المتصوّفة يعقدون الاجتماعات لدراسة إن كان ابن تيمية مبتدعا ضالا أم كافرا مرتدا، ويسعون بالوشاية إلى الأمراء والسّلاطين ويحرّفون أقواله ويحملونها على غير محاملها للوصول إلى قتله أو سجنه أو نفيه، ليأتي الذين ورثوا تعصّب هؤلاء من بعدهم فيحترفوا التّدليس ويكتبوا لمريديهم وأتباعهم تاريخا آخر يقلّدون فيه أبطال الشّطحات أوسمة البطولات، ويلبسون سدنة القبور ومستحلّي النذور لباس أصحاب الثّغور.

وهذا غيض من فيض التّدليس الذي غرف منه الأستاذ بن عبيد ليحمّل أتباع الإسلام السّياسيّ تبعات النّكبات التي حلّت بالأمّة كلّها، وينسب إليهم أنّهم نظّروا للتّكفير الذي استباح دماء المسلمين ونفّذوه! غاضّا طرفه عن اتّهام غلاة التّكفير لأنصار الإسلام السياسيّ بأنّهم ينظّرون للقعود.

ويتمادى الأستاذ فينسب إلى خصومه أنّهم كانوا السّبب فيما لحق أهل القبلة بعد أحداث الـ11 سبتمبر، على طريقة اتّهام الدّاي حسين بالتّسبّب في احتلال الجزائر 132 سنة لأنّه لوّح بالمروحة في وجه القنصل الفرنسيّ شارل دوفال.. ولو تأمّل الأستاذ كيف أنّ الحرب على الإرهاب التي استهدفت أهل القبلة انطلقت بعد أقلّ من شهر على تفجيرات برجي التجارة في نيويورك، ما يدلّ على أنّه تمّ الإعداد لها قبل تلك الأحداث، لكفى نفسه سبّة التّرويج لهذه الذّريعة التي تبرّر الإرهاب الغربيّ، في الوقت الذي سخِر منها كثير من الكتّاب والصّحفيين في الغرب نفسه، ويكفي الرّجوع في هذا الصّدد إلى كتاب “أسرار وأكاذيب في الحرب على الإرهاب” لمؤلّفه الأمريكي كورت إيشنوالد، أو إلى مقال للصّحفيّ المشهور جون بلجر بعنوان “البرنامج الأميركي الخفي للحرب ضدّ الإرهاب” يكشف أنّ الحرب ضدّ الإرهاب أكذوبة سمجة للتّغطية على سعي الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلى السّيطرة على مصادر النّفط والغاز في حوض قزوين، والمصادر العظمى للفحم الحجري، ناهيك عن التّصريحات التي أطلقها عدد من القساوسة بأنّ الأمر يتعلّق بحرب صليبية جديدة، تأتي إحياءً لحملات سابقة لم تكن بحاجة إلى أيّ ذرائع.

(( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ )).

مقالات ذات صلة