-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ويسألونك عن الدكتوراه!

ويسألونك عن الدكتوراه!

يعرف وضع شهادة الدكتوراه تحوّلا كبيرا في معظم بلدان العالم خلال السنوات الأخيرة. وإذا تذكّرنا مثلا وضع بلدنا، لاحظنا أن الحاصل على الشهادة الابتدائية غداة استقلال الجزائر كان ينظر إليه كمن أنهى اليوم دراسته الجامعية. وأما الحاصل على شهادة الأهلية أو البكالوريا فكان يعدّ من علّية القوم. ومضى ذلك العهد، وصارت شهادة الدكتوراه في القرن الحادي والعشرين غاية يدركها تقريبا كل طالب في جامعاتهم وجامعاتنا إلا من أبى. ومن المعلوم أن الكمّ والكيف أمران لا يلتقيان، ولذا تدهور المستوى العامّ في كل مكان، وهذا لا يتناقض مع وجود نخب من الحاصلين على هذه الشهادة في كل الدفعات وكل الاختصاصات وكل الأوقات.

الوضع الراهن

كان المواطن في العالم الغربي قد تفطن منذ عهد بعيد إلى أن شهادة الدكتوراه ليست أفضل طريق لضمان رغد العيش، ذلك أن فرص العمل في تلك المجتمعات أصبحت متاحة أكثر فأكثر لمن ليس له هذه الشهادة. أما مواطن دول العالم الثالث فظل لسنوات طويلة يطمح في بلوغ مستوى الدكتوراه لأن ذلك كان أحسن ضامن للقمة العيش نظرا لتكاثر الجامعات في هذه البلدان ولحاجتها الماسّة إلى المدرّسين الجامعيين. وبمرور الوقت تشبَّعت مجتمعاتنا تدريجيا من حمَلة هذه الشهادة وتعقدت الأمور بالنسبة للطلبة الطامحين في مواصلة الدراسة إذ بات العرض أكثر من الطلب، فما الحيلة؟ هل نُكَوّن حملة دكتوراه دون ضمان لوظيفة تناسب شهادتهم؟ أم نغلق باب هذا التكوين؟ أم نقلّل منه وفق حاجياتنا؟ بطبيعة الحال فالسياسة الرشيدة تقتضي مواصلة التكوين مع ضمان جودته وضمان وظيفة للمتخرجين، لكن أين نحن من هذا التوازن المثالي؟

في الجزائر نتذكر خلال الفترة الأخيرة كيف أحيل بين عشية وضحاها أزيد من ألف أستاذ جامعي إلى التقاعد لفتح المجال أمام توظيف آلاف الدكاترة الجدد، وهي عملية جيدة إذا ما نظرنا إليها من زاوية توظيف فئة واسعة من البطالين الحاصلين على أرقى شهادة جامعية، لكنها تُعدّ بالغة السوء لِما ينجرُّ عنها من سلبيات في باب جودة التكوين ومسيرة البحث العلمي، خاصة إذا ما تمعننا في الآثار السلبية في إحالة عدد كبير من أصحاب الخبرة على التقاعد دفعة واحدة.

ورغم ذلك، لازال عندنا معظم حملة الماستر يلهثون وراء التسجيل في الدكتوراه. وهذا خلافا لما يجري في البلدان القريبة منا مثل الشقيقتين المغرب وتونس حيث لوحظ أكثر فأكثر عزوفٌ وتناقص في عدد طلبة الدكتوراه، بل ساء الوضع بتزايد التسرّب لدى المسجلين في هذه الشهادة والتخلي عن الدراسة، فالأمل هناك في الفوز بوظيفة تضاءل، وهو ما يؤثر في مستوى البحث العلمي -على المدى المتوسط والبعيد- في تلك البلدان. أما في العالم المتقدم فالقوم يعيشون الوضعية ذاتها من ناحية قلة المقبلين على التسجيل في الدكتوراه، لكنهم يغطّون ذلك العجز بجلب طلبة العالم الثالث إلى مخابرهم وجامعاتهم، وهم ينجحون في ذلك في أغلب الأحيان بفضل ما يوفّرونه من خدمات وتسهيلات ووسائل بحثية للطلبة الوافدين.

وعلى كل حال، تُعدّ شهادة الدكتوراه في جميع البلدان مطلبا أساسيا للعمل في المجال الأكاديمي لأنها ضرورية لعالم البحث والتقدم العلمي في جميع التخصصات. أما متطلبات الحصول على هذه الشهادة فتختلف بشكل كبير من بلد إلى آخر ومن جامعة إلى أخرى؛ ففي الوقت الذي يتعيّن فيه على بعض الطلبة قضاء عامين في الدراسة للحصول على شهادة الماجستير ثم تحضير أطروحة الدكتوراه بالانكباب على البحث دون سواه، نجد جامعاتٍ أخرى تُلزم الطالب بمتابعة دروس وإجراء امتحانات قبل البدء في المرحلة الأخيرة من تحضير الأطروحة. كما أن هناك من يجبر طالب الدكتوراه على تدريس طلبة جامعيين قبل نيل الشهادة. وبخصوص حجم الأطروحة فقد تتكون من عشرات الصفحات في الرياضيات والفيزياء، ومن مئات الصفحات في الأدب والقانون. ومن ثمّ ندرك أن الاختلافات كثيرة ومتشعِّبة.

كيف كان الاتجاه العام وكيف أصبح؟

وكما أسلفنا، فالمشكل الذي تعاني منه معظم بلدان العالم هو وجود فائض كبير في المعروض من الدكاترة. ذلك لأن عدد مناصب الدكتوراه التي تفتح في الجامعات عبر العالم لا يراعي عدد فرص العمل. وفي الوقت نفسه، يشكو رجال الأعمال من نقص المهارات عالية المستوى، وهذا يعني أن هناك خللا في تكوين حملة الدكتوراه إذا ما وُجِّهوا إلى سوق العمل خارج الجامعات.

وفي هذا السياق، يلاحظ المؤرِّخون أن في الماضي البعيد لم يكن العديد من أعضاء هيئة التدريس في الغرب والشرق حاصلون على شهادة الدكتوراه، ولكن انتشار التعليم العالي بعد الحرب العالمية الثانية غيّر هذا الوضع وازداد الطلب على الشهادات العليا. وهو ما أدَّى إلى الوضع الحالي. وبحلول عام 1970، كانت الولايات المتحدة وحدها تكوّن نحو ثلث طلبة الجامعات في العالم ونصف طلبة الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا، وهذا في الوقت الذي كان فيه عدد سكانها لا يتجاوز 6% من سكان العالم. ومنذ ذلك الحين تضاعف العدد السنوي لطلبة الدكتوراه في الولايات المتحدة ليصل إلى 64 ألف دكتور.

نتذكر خلال الفترة الأخيرة كيف أحيل بين عشية وضحاها أزيد من ألف أستاذ جامعي إلى التقاعد لفتح المجال أمام توظيف آلاف الدكاترة الجدد، وهي عملية جيدة إذا ما نظرنا إليها من زاوية توظيف فئة واسعة من البطالين الحاصلين على أرقى شهادة جامعية، لكنها تُعدّ بالغة السوء لِما ينجرُّ عنها من سلبيات في باب جودة التكوين ومسيرة البحث العلمي، خاصة إذا ما تمعننا في الآثار السلبية في إحالة عدد كبير من أصحاب الخبرة على التقاعد دفعة واحدة.

ثم لحقت دول أخرى بأمريكا: فبين عامي 1998 و2006 مثلا، ارتفع عدد شهادات الدكتوراه الممنوحة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التي تضم زهاء 38 بلدا، بنسبة 40%، أما في الولايات المتحدة فارتفعت هذه النسبة إلى 22%. وقد تزايد عدد الدكاترة بشكل كبير في كثير من البلدان مثل المكسيك والبرتغال وإيطاليا وسلوفاكيا. وفي واليابان بلغت نسبة الزيادة في عدد الحاصلين على الدكتوراه -رغم تقلص عدد الشباب- نحو 46%. تعكس هذه الأرقام جانبا من تطور انتشار التعليم الجامعي في العالم.

ومن جهة أخرى، اكتشفت الجامعات أن طلبة الدكتوراه يمثلون يدًا عاملة غير مكلفة رغم ما يقدمونه في مجال البحث في مخابر الجامعات، وأن تزايد عددهم يؤدي إلى تقدم البحث العلمي، فضلا عن تغطيتهم لجزء معتبر من التدريس في عديد البلدان مع تقاضي رواتب متدنية مقارنة برواتب أساتذة هيئة التدريس. وهذا ما دفع خلال فترة معينة إلى تكثيف إنتاج شهادات الدكتوراه إذ فاق بكثير الطلب على المحاضرين الجامعيين. على سبيل المثال، أنتجت الولايات المتحدة أكثر من مائة ألف شهادة دكتوراه خلال الفترة 2005 -2009، في حين لم يتم توظيف آنذاك سوى 16 ألف مدرّس جامعي جديد. ذلك أن استغلال طلبة الدكتوراه للقيام بالكثير من مهام التدريس الجامعي يخفّض الحاجة إلى توظيف مدرِّسين دائمين.

لا بد من الإشارة أيضا إلى فئة “باحثي ما بعد الدكتوراه” (Postdoctoral researchers) التي لها دور بارز في تقدم الأبحاث الجامعية. لقد أدى ظهور هذه الفئة في جامعات العالم إلى عقبة أخرى في طريق الحصول على منصب أكاديمي لحاملي الدكتوراه إذ أصبح أحد  الشروط الأساسية للحصول على وظيفة آمنة بدوام كامل في بعض الجامعات هو أن يقضي المترشح خمس سنوات كباحث من هذه الفئة. وفي هذا السياق تظهر إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الصادرة قبل سنوات أنه بعد خمس سنوات من حصولهم على شهاداتهم، كان أكثر من 60% من حاملي شهادات الدكتوراه في سلوفاكيا، وأكثر من 45% في بلجيكا وجمهورية التشيك وألمانيا وأسبانيا لا يزالون يعملون بعقود مؤقتة. كما أن ثلث خريجي الدكتوراه في النمسا يشغلون وظائف لا تربطها صلة بشهاداتهم. وفي ألمانيا، ينتهي الأمر بـ13% من خريجي الدكتوراه إلى قبول وظائف متدنِّية دون مستواهم، وفي هولندا تبلغ هذه النسبة 21%.

كل هذا يبيّن التعقيدات التي تعيشها معظم البلدان في تسيير شؤون الدراسات الجامعية ما بعد التدرُّج، ويؤكد صعوبة البتّ في الخيار السياسي الذي لا شك يختلف من بلد إلى آخر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!