-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ويلٌ للمطفّفين

سلطان بركاني
  • 1312
  • 0
ويلٌ للمطفّفين

ما منّا من أحد يقرأ أو يسمع قول الله عزّ وجلّ: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين))، إلا ويتبادر إلى ذهنه أنّ المقصود به ذلك البائع الذي يغشّ في الميزان ويعطي زبائنه أقلّ من حقّهم، في الوقت الذي يحرص على أن يأخذ ثمن بضاعته وسلعته كاملا غير منقوص.. وهذا -لا شكّ- من معاني هذه الآية، لكنّ التّطفيف لا يقتصر على الميزان وعلى التّجارة فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى مناحي كثيرة في الحياة، إلى كلّ عمل يتخلّى صاحبه عن العدل، ويتحلّى بالأنانية والأثرة، فيأخذ من حقّ غيره ما يراه هينا طفيفا، بينما يرفض أن يأخذ غيرُه من حقّه شيئا.

 المطفّف هو كلّ عبد مسلم، يتمنّى أن يعطيَه الله كلَّ ما يتمنّاه في هذه الدّنيا من صحّة وعافية ومال وسكن وسيارة وزوجة وأبناء أصحّاء ناجحين، ويدعو الله باللّيل والنّهار أن يفتح له أبواب الخيرات والبركات ويبعد عنه المنغّصات والابتلاءات، لكنّه في المقابل ينسى حقّ الله عليه؛ يتهاون في صلاته، ويهجر القرآن، وينسى ذكر الله، ويعصيه ويتعدّى حدوده.. ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْل)).

المطفّف هو -أيضا- ذلك العبد الذي يأخذ حقّه من النّاس ويستوفيه كاملا غير منقوص، لكنّه يُنقص حقّ غيره ولا يؤدّيه كاملا.. المطفّف هو كلّ ابن (ولد أو بنت) يستوفي حقّه من والديه؛ ينفق عليه والده ويطعمه ويكسوه ويرعاه ويذود عنه، وترعاه أمّه وتحنو عليه وتبيت ساهرة لينام، وتهيّئ طعامه وتغسل ثيابه، ثمّ إذا بلغ مرحلة الشّباب وأحسّ بأنّه قد استغنى عن والديه، أظهر الجفاء وقلّة الاهتمام وأصبح ينظر إلى أبيه الحنون وأمّه الرّؤوم كمخلوقين زائدين في هذه الحياة، وربّما يفارقهما ولا يسأل عنهما، وقد يعقّهما ويخاصمها.. ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ)).

المطفّف هو -أيضا- كلّ أب يطلب من أبنائه أن يبرّوه ويطيعوه ويعينوه، ويحاسبهم على الصّغير والكبير، لكنّه في المقابل يهمل تربيتهم ويتهاون في رعايتهم ولا ينظر في حاجاتهم ولا يهتمّ بمعاناتهم، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يعول”.

المطفّف هو أيضا كلّ زوج يطالب زوجته بكامل حقوقه ويحاسبها على الكبير والصّغير والجليل والحقير، ولا يقبل منها أيّ تهاون في حقّه، وكلّما بدر منها تقصير خوّفها بالله وهدّدها بالطّلاق والفراق، لكنّه في المقابل ينسى حقّها عليه في حسن عشرتها والإحسان إليها وملاطفتها ومشاورتها وعدم إيذائها، يحفظ قول الله جلّ وعلا ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ))، ولا يحفظ قوله جلّ شأنه: ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا))، وقوله سبحانه: ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)).. يحفظ قول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “حقّ الزّوج على زوجته لو كانت به قرحة فلحستها أو انتثر منخراه صديدا أو دما ثم ابتلعته ما أدّت حقّه”، وينسى قوله -عليه الصّلاة والسّلام-: “ألا واستوصوا بالنّساء خيرا فإنما هنّ عوان عندكم”.

المطفّف هو أيضا كلّ زوجة تحرص على أن تستوفي حقّها كاملا من زوجها، لكنّها في المقابل لا تهتمّ بقوامته وحقّه عليها، تنظر إليه على أنّه عبد يشقى ويتعب لأجل أن يوفّر لها ما تحتاج إليه من مال ومتاع، أو تنظر إليه كشريك ينبغي أن تقف في وجهه وتواجهه وتريَه العين الحمراء، تفعل هذا أو ذاك وتنسى قول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح”.

المطفّف هو أيضا كلّ أخ يحرص على أن يستخدم أخواته ويستغلّهنّ في إعداد طعامه وغسل ثيابه وترتيب فراشه، وربّما يستغلّهنّ في خدمة زوجته، لكنّه في المقابل لا يكرمهنّ ولا ينفق عليهنّ إلا قليلا، بل ربّما لا يسمعن منه كلمة طيّبة، وربّما يصل به الأمر إلى منعهنّ حقّهنّ في الزّواج، فيردّ عنهنّ الخطّاب ويجد في كلّ مرّة من الأعذار والمبرّرات أوهاها، حتى لا تتزوّج أخواته ويبقين خادمات عنده وعند زوجته.. وهكذا كلّ أب يحرص على أن يسخّر ابنته -أو بناته- في خدمته، ثمّ يرفض تزويجها حتى تبقى أسيرة عنده.

المطفّف هو أيضا كلّ معلّم أو أستاذٍ يحرص على أن يأخذ راتبه في آخر الشّهر كاملا غير منقوص، لكنّه في المقابل يتكاسل في شرح الدّروس لتلاميذه وطلبته، وربّما يتأخّر في الحضور ويستعجل الانصراف ويقضي وقتا غير قليل في الحديث مع زملائه، وربّما يتعمّد الإيجاز والتّعميم في الشّرح حتى يضطرّ تلاميذه وطلبته لحضور الدّروس الخصوصية خارج المدرسة، والتي تكون مقابل مبالغ هو من يحدّدها.

المطفّف هو أيضا كلّ شخص يريد من أقاربه وجيرانه أن يهتمّوا بأمره ويسألوا عنه، ويكونوا معه في السرّاء والضّراء، ويواسوه بأنفسهم وأموالهم، لكنّه في المقابل يقاطعهم ولا يكترث بهم، ولا يجدون له حسا ولا خبرا في سرّاء ولا ضرّاء.

المطفّف هو أيضا كلّ عبد يستخدم عاملا عنده مقابل أجرة محدّدة معلومة، ويَعده ويعطيه العهود والمواثيق على أنّه سيعطيه حقّه كاملا عندما يتمّ عمله، فإذا أتمّ عمله كما طلب منه، أخذ صاحب العمل يماطل ويتعلّل ويجد المبرّرات ليؤخّر سداد الأجرة، وينسى قول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفّه أجره”.

المطفّف هو أيضا كلّ عامل أو أجير يأخذ حقّه من صاحب العمل قبل أن يتمّ عمله وفي نيته أن يغدر به؛ يأتيه في كلّ مرّة يطلب قسطا من أجرته، ويتعلّل له بالحاجة ومرض الزّوجة والأبناء، وهكذا حتى يأخذ الأجرة كاملة قبل أن يتمّ عمله، وربّما يتهرّب بعد ذلك من إتمامه، وإن أتمّه، أتمّه من دون إتقان، فيكون قد وقع في كبائر كلّ واحدة منها كفيلة أن تهلكه، كبيرة نقض العهد، وكبيرة أكل أموال النّاس بالباطل، وكبيرة الغدر.

المطفّف هو أيضا كلّ تاجر يحرص على أن يستوفي ثمن السّلعة ويأخذه كاملا، لكنّه في المقابل ينقص في الميزان 10 غ أو 20غ أو أكثر، وربّما يتهاون في تفقّد ميزانه من حين لآخر، وربّما يراه غير دقيق ولا يهتمّ بأمره، وربّما يبيع السّلعة مع التّراب، وربّما يُلزم الزبائن باقتناء ما ليسوا في حاجة إليه.. المطفّف هو كلّ تاجر يتخيّر من سلعته أجودها وأجملها فيعرضها للنّاظرين، ثمّ يزن للمشترين ويعطيهم من الرّديئة التي يحجبها عن الأنظار.

هؤلاء جميعا يدخلون في قول الله جلّ وعلا ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))).. إنّه الويل؛ عذاب أليم شديد أعدّ في جهنّم لكلّ من يطفّف في معاملته لخالقه أو معاملته للنّاس من حوله.. فالحذر الحذر أخي المؤمن.. هذا الوعيد الشّديد من الله العزيز الحميد أنزل ابتداءً في حقّ التجّار الذين يتهاونون في أمر الميزان، لكنّه عامّ في حقّ كلّ من يتحلّى بالأنانية والأثرة، ويتخلّى عن العدل والإنصاف في معاملة النّاس من حوله.. العبد المؤمن الذي يخاف الله والدّار الآخرة، يحرص على أن يؤدّي حقوق النّاس كاملة، بقدر استطاعته، كما يحرص على استيفاء حقوقه، بل إنّ العبد المؤمن التقيّ يتسامح مع النّاس في حقّه، لكنّه لا يتسامح مع نفسه في حقّ النّاس.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!