الرأي

يا لها من مهزلة !!

التهامي مجوري
  • 2019
  • 8
ح.م
مصطفى عشوي

أعلن الأستاذ الدكتور مصطفى عشوي منذ مدة عن عزمه وبعض زملائه على إنشاء جمعية علمية متخصصة وهي “جمعية علماء النفس الجزائريين”.. وبعد مدة من المساعي التي أجهل تفاصيلها طلع علينا الأستاذ عشوي بمنشور على صفحته بالفايسبوك بمنشور تحت عنوان “إبراء للذمة” هذا نصه “حاولنا إنشاء جمعية لعلماء النفس الجزائريين…، ولكن لم تتم الأمور الإجرائية كما تشتهي السفن…، وتبين فعلا أن بعض الزملاء غير مستعدين للعمل ضمن جمعية علمية ليس فيها مصالح شخصية آنية… ، وقد تم خلال اللقاء جمع مبلغ مالي بسيط لم يتعد 5000 دج، من بعض الزملاء وهو عند أحد الزملاء الأمناء ومستعد لرد هذا المبلغ لأصحابه وإن كان قد تصدق بالمبلغ لكيلا يحتفظ به….، الرجاء ممن يريد استرداد المبلغ الذي دفعه الاتصال بي.. ، ونرجو أن تتهيأ ظروف أحسن للعمل الجماعي”.
الاهتمام بالشأن العام فضيلة، وفطرة جبل عليها الإنسان، لما فيها نفع عام، وما في نفس الإنسان من حب ورحمة وتواد وتعاطف مع بني جنسه. وارتقاء هذا النَّفَس يكون بارتقاء المرء في مستواه العلمي والأخلاقي، وموقعه في السُّلَّم الإجتماعي، ولا يضعف هذا النفس ولا ينعدم إلا عندما تفتر الهمم وتغيب الأخلاق، ولا تفتر الهمم وتغيب، إلا عندما يفقد المجتمع هويته، أو يعم الضباب وتكثر الفتن والهرج والمرج، فلا يدري الإنسان ماذا يفعل؟ ولا ماذا يريد؟ بل ولا يعلم القاتل لماذا يقتل؟ والمقتول فيم قُتل؟
عندما قرأت منشور الأستاذ عشوي استأت كثيرا؛ لأن الوصف الذي ذكره يدعو إلى التشاؤم واليأس والإحباط؛ لأن النخبة التي يتكلم عنها من فئة الأساتذة الجامعيين، ومن علماء النفس وربما كانوا من أهل التجربة والخبرة…إلخ، وربما بلغوا من العمر ومن المستوى المادي ما يغنيهم عما في الدنيا..، وقلت في نفسي ألا يوجد في الجزائر 25 شخص -وهو العدد المطلوب في قانون الجمعيات الوطنية- من المهتمين بالشأن العام، الذين يهمهم خدمة الأمة كما خدموا مصالحهم الخاصة؟ ألا يوجد في الجزائر 25 شخص من المتخصصين في علم النفس لينشئوا جمعية وطنية لعلماء النفس الجزائريين، ليكونوا مرجعا في هذا المجال، وخبراء ميدانيين تساهم بواسطتهم الجزائر في تنمية هذا العلم بفروعه المتنوعة؟ وتشارك العالم فيما تقوم به الجمعيات العلمية وغيرهما من مؤسسات المجتمع المدني في العالم. تساءلت هكذا بمرارة..
ولكن سرعان ما رجعت إلى نفسي وعدت بها إلى ما كانت عليه الجزائر ولا زالت في علاقتها بالعلم والعلماء، ابتداء من أمثالنا الشعبية التي أهانت العلم والعلماء، وانتهاء بمستوى نخبنا التي لا تكاد تفصلها عن الأمية وما جاورها من مفاهيم شيء.
فعندما يقول العامي لصاحبه “اللي قرا قرا بكري”، وعندما تقول المرأة لابنتها “شدي يدك بطالب حتان نلقالك راجل”، “اعطيهلي فاهم والله لا قرا”.
إن هذا السلوك العفوي الساذج، هو الذي يمثل المنطلق المؤسس للموقف من العلم والعلماء، وهو موقف متخاذل بكل أسف، رغم أننا في كل عام نسمع آلاف الخطب والدروس في المساجد التي ترغب في العلم وتبجيل العلماء، ونقرأ مئات الأخبار التي تكشف لنا عن أهمية العلم والعلماء، ونطَّلع على عشرات من المكتشفات العلمية والجوائز الدولية التي تنزل العلماء منازلهم في جميع التخصصات.
ولكن واقعنا بكل أسف كما أرادت له فرنسا من “يحوِّسْ يفهم” لا يدري ما يكون مصيره؟ لأن المنظومة التي اجتهدت فرنسا خلال 132 سنة في أن تكون موقفا من العلم والعلماء، سكنت نفوسنا واستقرت في لاشعورنا، وأصبحنا نعبر عنها بالكثير من الصيغ. ولذلك نرى في العرف العام، أن الجزائري إذا أراد أن يهدد شخصا أو يتحرش به يقول له “تحوس تفهم ضرك تشوف”، وعبارة “تحوس تفهم” يعني تريد أن تفهم، تريد أن تعلم، وهي العبارة التي كانت تستعملها قوات الأمن الفرنسية في محاربة المقاومين وتهديدهم، ومن ثم تحول أمام القمع الفرنسي أن كل من “يحوس يفهم” يبحث عن البلاء ثم يتحول إلى شخص غير مرغوب عنه.
وحتى لا أعتبر متجنيا على المجتمع، يمكنني أن أستعين بالكثير من الشواهد على هذا المنحى الذي سار في ركابه المجتمع طيلة هذه العقود بعد الإستقلال 1962/2018.
فعلى المستوى السياسي والإداري، فإن الورقة “الملعوبة” هي المراسيم والوسائط، وليس للمكانة العلمية والشهادات المستحقة.. ومما يدمي القلب في هذا المجال أن المناصب السياسية لا تراعي الموازنة بين الفاضل والمفضول، وإنما تراعي الولاء بجميع ألوانه على حساب المستوى العلمي، ولذلك كان المعتمد فيها هو المراسيم وليس الشهادات المستحقة أو الخبرة العلمية.
لا شك أن المناصب السياسية تبحث عن الولاء قبل كل شيء، وذلك مشروع ولا شك لكل سلطة تريد أن تتحكم في الوضع، ولكن المستهجن هو عندما يكون الولاء مقدم على الكفاءة العلمية.
وعلى مستوى إطارات المؤسسات الإقتصادية كذلك، يمكن أن يضحى بكفاءة علمية وخبرة تقنية عالية، من أجل الحفاظ على عقد اقتصادي له طابع سياسي؛ لأن الكفاءة العلمية أو الخبرة التقنية ترفض أن تقبل بالعقد الذي “يُخَسِّر البلاد”، بينما “العقد بالطابع السياسي” يمكن أن يقبل بالخسارة ويضحي بالكفاءة العلمية.. وإذا حاول المسؤول العالم والخبير مقاومة “العوج”، فإنه يجد نفسه على مرمى حجر من منصبه ولا أحد يبكي عليه وعلى أيامه.
وعلى مستوى المؤسسات التعليمية، فإن البداية يمكن أن تنطلق من اعتبار أن هذا القطاع “غير منتج”… والسلطة التي تنظر للتعليم على أنه قطاع غير منتج ماذا ننتظر منها؟ ومن مواقفها من العلم والعلماء؟
المجال لا يسمح لنا بالإسهاب في الكلام عن كيفية الترقيات وطرق البعثات العلمية ومستوى مخابر البحث العلمي وكيفية تسييرها ونوع منتوجها العلمي ومستوى علاقة جامعاتنا بالجامعات في العالم، وكذلك مستوى رجالات الجامعة أنفسهم، من الذين أهانوا العلم بتصرفاتهم المنحطة، وبمستوياتهم النازلة إلى الحضيض، ويمكن لكل امرأ أن يجلس مع أستاذ جامعي –بروفسور- في أي تخصص، ليكتشف مستوى التفكير “المبشر” بالمستوى العلمي الذي ستبنى به الجزائر، حيث تلاحظ أن منظومته العقلية تشبه العامي، فيحدثك عن سعر البطاطا ويلعن لك زيد من الناس ويسب لك عمرو وهلم جرا.. كل ذلك يوضحه لنا فشل مبادرة جمعية علماء النفس التي قال الأستاذ عشوي عن سبب فشلها ما يلي: “تبين فعلا أن بعض الزملاء غير مستعدين للعمل ضمن جمعية علمية ليس فيها مصالح شخصية آنية… “، وعندما يكون هذا هو شأن العلماء أنفسهم، لا يلام رجال السلطة ولا غيرهم على مواقفهم السلبية من العلم والعلماء؛ لأن الأمر كما قالت العرب قديما “مَنْ يَهُن يَسْهُل الهوان عليه”.
لا شك أن هناك علماء جادون في نشاطاتهم العلمية، ويستحقون كل تقدير، ولكن هذا الصنف منهم نادر ندرة الكبريت الأحمر كما يقال.
لقد حكى لي أستاذ جامعي أنه دعي إلى طوكيو للمشاركة في نشاط علمي فطلب من جامعته الترخيص له بالمشاركة فرفضت…، فاضطر لأن يقدم شهادة مرضية ويسافر.. لماذا يقع مثل هذا الأمر؟ لماذا ترفض الجامعة؟ ولماذا يضطر الأستاذ إلى هذا السلوك غير الحضاري؟
وأنموذج آخر للتحدي، الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله الذي مر بتجربة مُرَّة في البحث عن تمويل لقسم من كتابه “تاريخ الجزائر الثقافي”، يغطي المرحلة ما بين الفتح الإسلامي وبداية العهد التركي؛ لأن هذه الفترة نشاطات الجزائر الثقافية موزعة ما بين تونس شرقا والمغرب غربا فأراد الأستاذ أن يلملمها…، ولكن حفيت قدماه لسنوات بحثا عن تمويل هذا القسم، ولم يجد من “ياكلوا قلبوا” على هذه البلاد…، وفي الأخير يسر الله له من يساعده قبيل وفاته على إنجاز العمل وبحيلة أيضا.. ولكن بعد ماذا؟
فأنجز العمل، ولكن أنا متؤكد أن هذا الإنجاز كان خارج زمنه، فلو وجد من يهتم به في حينه أي قبل سنوات طويلة، لكان أفضل مما هو بين أيدينا اليوم.
هذا الكتاب طبع بعد وفاته مستقلا عن الأجزاء العشرة المنشورة التي تغطي الفترة ما بين من العهد التركي إلى سنة 1962.
ثم هذه الآلاف من الشباب والكهول والشيوخ، من الذين يهجرون الجزائر سنويا، ليجدوا مكانهم الذي يستحقونه في الغربة، دليل آخر على إهمالنا لعلمائنا واحتقارنا لمكانتهم.
أليس الأمر في حاجة جادة إلى المراجعة؟ أم نحن راضون على ما نحن عليه؟
إن رسالة الدكتور عشوي.. يوجد منها الآلاف لدى الذين في نفوسهم ذرة حب لهذه البلاد ولشعبها، ولكنهم لم يتكلموا وكما يقول المثل “يمين العقون في صدروا”، أي يمين الأبكم في نفسه لأنه عاجز عن النطق.

مقالات ذات صلة