-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

3 ملايين دولار … هبة للعلم!!

3 ملايين دولار … هبة للعلم!!

كان أبوه طبيبا ذائع الصيت في بودبست، عاصمة المجر؛ وتوفيّت والدته عند بلوغه 6 أشهر. بعدما عاش ويلات الحرب العالمية الأولى رحل أبوه إلى الولايات المتحدة تاركا ابنه في كفالة غيره. ولما استقر هناك أتى بولده إلى مدينة شيكاغو عام 1929. هذا الابن هو عالم الرياضيات بول هلموس Paul Halmos (1916-2006) الذي صال وجال في معظم فروع الرياضيات فكان له شأن علمي كبير على المستوى العالمي.

فخور بكونه معلمًا

لم يكن بول هلموس باحثا متقوقعا في زاوية بجامعة أمريكية بل كان نشاطه يغطي أيضا مجال التدريس والنشر في المجلات والكتب كمؤلف وكخبير مقيّم في هيئات تحرير المجلات ودور نشر الكتب. بعبارة أخرى كان هلموس ينشط في كل ما يرقّي الرياضيات بالولايات المتحدة.

ويُعرف هلموس بأسلوبه الراقي الذي يجمع بين الدقة والسلاسة والمرح. وقد ذاع صيته بمجرد نشره لأول كتاب حول الفضاءات الشعاعية المنتهية الأبعاد رغم أن الموضوع لا يعتبر معقّدا. أما إسهامه الكبير فكان في حقول كثيرة منها موضوع فضاءات هلبرت Hilbert.

“أنا فخور بأن أكون معلما! التعليم موضوعه سرعان ما ينتهي وقته فهو كاللعب على الكَمان: تنتهي مقطوعة الكَمان مثلما تنتهي حصة الدرس…”. ذلك ما صرح به هلموس، الأستاذ البارع الذي يتقن فن التبليغ ويهوى التعليم إلى أقصى الحدود. كما أنه يعشق الرياضيات إذ وصفها عندما سئل ذات يوم عن معناها : “إنها الأمن واليقين والحقيقة والجمال والتبصّر والبناء وفنّ التشييد!”

وكعيّنة من أسلوبه الشيق نقرأ ما جاء في مقدمّة مذكّراته التي أصدرها عام 1985 تحت عنوان I want to be a mathematician (أريد أن أكون رياضياتيا) :”بالتأكيد فإن لي والدين (اثنيْن) وزوجات (اثنتيْن، واحدة في كل مرة، والزوجة الحالية منذ أربعين سنة) وقططا (ثمانية، اثنان في كل مرة، والقطان الحاليان منذ ثلاث سنوات) ولي، ماضيا وحاضرا، الكثير من العيوب، وأكاد أجزم أن لي بعض الفضائل … كل ذلك صحيح، لكنه لا يعنيكم، فهدف الكتاب ليس هذا”!

وهلموس، بدل التفاخر بما قدمه من نتائج أصيلة للرياضيات، نجده يفتخر بكونه هو الذي أدخل في الكتابة الرياضية الرمز ” “iff (اختصار لعبارة  “If and only if”، أي “إذا وفقط إذا”) والذي نعبّر عنه عربيًا بالرمز “إذاا”. ويضيف : لو سئلتُ عماذا قدمتُ أيضا للرياضيات لقلت إني أدخلت في كتابتها رمز “المربع” الذي يُستعمل للدلالة على نهاية البراهين. يُسمّىَ هذا الرمز  tombstone(أي “شاهد القبر”)، وقد أطلق عليه البعض اسم “هلموس”!

من المعروف في عالم الرياضيات أن خبراء التقييم والتحكيم في المجلات والكتب لا يتقاضون أجرا إلا في حالات نادرة، وهذا رغم ما تتطلبه المهمة من عمل شاق ومسؤولية علمية. وفي هذا السياق يروي هلموس أنه كان يعاني من ضيق الوقت حتى أنه لم يعد قادرا على تلبية الطلبات. ولذلك كاتب كل تلك الدور ليحدد لها سعر أية خدمة من هذا القبيل. ويمضي هلموس في وصف ما جرى بعد ذلك قائلا : وبذلك كسبت المال والوقت. ويختم بالقول المازح : عندما أخبرت أحدهم بعد مدة تفاجأ ولاحظ أن أسعاري أكل عليها الدهر!

التعليم والبحث والنشر

 يؤكد هلموس أنه يستمتع بالدراسة والتعلم والاستيعاب، ثم يستمتع بشرح ما تعلمه وتدريسه للغير. ويضيف : لكن هذا لا يعني أن تبليغ ما استوعبته أمر هيّن في جميع الأحوال. ثم يشير إلى أن عملية التبليغ قد تكون بالغة الصعوبة لأن هذه المهمة لا تتطلب فحسب معرفة ما ينبغي أن يتضمنه خطابنا بل يتعيّن علينا أيضا تحديد ما يجب تركه خارجه! والأهم من ذلك هو أن نعرف متى ينبغي أن نقول الحقيقة كاملة ومتى يتعين القفز على بعض أجزائها. بعبارة أخرى، فالصعوبة في العرض لا تكمن فقط في الأسلوب، واختيار الكلمات المناسبة ، بل تكمن بوجه خاص في هيكلة الخطاب وترتيب المادة المقدمة.

أما الغرض من المحاضرات العامة فيراه هلموس ذا طابع إعلامي، والجهد ينبغي أن ينصبّ على جعل الجمهور يستوعب المعلومات. وفي كل الأحوال علينا تجنب العرض الجذاب الخالي من المحتوى العلمي… وتجنّب أيضا تقديم كمية كثيفة من المعلومات غير قابلة للهضم من قِبل الجمهور!

يشير هلموس إلى أن إعداد محاضرة بمدة 50 دقيقة يتطلب 50 ساعة. ذلك ما ذكره زميله! وبهذا الصدد يضيف أنه تأكد من ذلك عندما كُلّف بإعداد محاضرة توضح وضع الرياضيات في الولايات المتحدة منذ عام 1940. فقد تطلب منه ذلك كتابة نص المحاضرة وتصحيحها عدة مرات، ثم تكرار إلقائها (من دون جمهور) للتدرب عليها، ثم الاستماع إلى تسجيلاتها الصوتية لإجراء التنقيحات (المدة، أسلوب الإلقاء، الحذف، الإضافة…)!

ويشير في باب آخر إلى أن الباحث الممتاز ليس بالضرورة أستاذا ممتازا والعكس بالعكس… كما أن المعلم أو الأستاذ يستطيع في آخر المطاف أن يقيّم نفسه بنفسه بالاعتماد على ما وصل إليه “منتوجه” : هل أنتج  تلميذا أو طالبا صار يقوم بعمله في الحياة المهنية على أكمل وجه؟ ومع ذلك، على الطالب أن يدرك بأن الجلوس أمام أستاذ بارع و”استيعاب” ما يقول لا يكفي مثلما لا يكفي أن نستمع إلى درس في السباحة لكي نتقن فنّها. بمعنى أن الطالب لا بد أن يمارس ويتدرب بنفسه ليرقى بمستواه.

صنَّف هلموس في مذكراته بعض أسماء علماء الرياضيات ووصل إلى الصنف الثالث ثم الرابع، وبعد ذلك عقّب بتواضع : لو طُلب منه تصنيف نفسه لقال أن لا مانع عنده أن يكون في هذا الصنف! وعندما سئل عن كيفية كتابة نص رياضي أوضح الأمر، لكنه اختتمه بما يلي : ـ”التحرير أو الكتابة الجيدة … يمكن لبعضهم إجادتها، أما البعض الآخر فلا قدرة له على ذلك… إذ لا توجد وصفة جاهزة لتعلم الكتابة الجيدة”.

وبخصوص نشر الأبحاث في المجلات يوصي هلموس بعدم نشر نتائج غير مثمرة، وبعدم إثارة جدل حول أخطاء الغير. كما لا ينبغي نشر تفاصيل عمل  قائم على مبدأ معروف أو النشر لإظهار فشلك… كأن تقول “لقد حاولت كذا وكذا ولم استطع.. انظروا!”

وفي سؤال حول الإبداع، أجاب هلموس أن العامل الأساسي هنا عامل فكري وأن الرياضيات ليست علما استقرائيا في مجال الاكتشاف : فأنت حين تريد البرهان على نظرية لا تضع أمامك قائمة الفرضيات وتشرع في الاستنباط المباشر بل عليك المحاولة والخطأ والتجربة والخطأ… ثم يأتي التخمين واختيار الوجهة الصحيحة.

كانت “جمعية الرياضيات الأمريكية” MAA تسعى إلى ترميم مركز للقاءات والندوات في واشنطن فتبرع لها هلموس في مطلع هذا القرن بأكبر هبة بلغت 3 ملايين دولار! وهو ما يبيّن أن بول هلموس عالم عاش من أجل ترقية الرياضيات بكل ما أوتي من قوة فكرية ومادية… ومن هذا الباب فهو رجل قلّ مثيله، ويستحق منا كل التقدير.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • منصور الغامدي

    استمتع واستفيد كل مرة اقرأ مقالة للدكتور أبو بكر، فهي تنقل حصاد أعمال وإنجازات وتجارب عالمية بأسلوب سهل ومشوق، الأجدر بنا في العالم العربي التعلم والاستفادة من هذه التجارب. كان بودي أن تجمع مقالات الدكتور أبو بكر وتنشر في كتاب، ولو بادرت صحيفة الشروق أو مؤسسة نشر بذلك خدمة للمعرفة وللقارئ العربي.

  • Tahar

    Il ya des extra terrestre sur terre et quand on leur demande d ou ils viennent ils disent d un petit pays qui s appelle la hongrie et ils pretendent qu ils s appellent paul (erdos halmos). L un aime les mots et l autre les nombres

  • أبو يونس

    قليل من يفكر هكذا خاصة عندنا في الجزائر فنجد البعض إن لم ينفعك يضرك فكم من موهبة حرم من الماجستير قديما والماستر حديثا بسبب الجهوية وكم من طالب موهوب حرم من إكمال مشواره العلمي في الماجستير بسبب الغيابات رغم تفوقه في أوراق الإجابة وكم وكم...ما بالك إن تعلق الأمر بالمال؟

  • طه داوود

    شكراً د. ابوبكر على هذا المقال الرائع عن عالم الرياضيات الجليل هلموس.