سوريا “المحتلة”
يمكن مجاراة المعارضة السورية وبعض البلدان الخليجية المؤيدة لها في تصريحاتهم المستمرة بأن سوريا قد أصبحت “محتلة” من إيران وحزب الله وكتائب أبي الفضل العباس العراقية.. ولكن هذه التصريحات المتكررة لا تمثل سوى نصف الحقيقة، أما النصف الآخر الذي سكت عنه هؤلاء على طريقة “ويلٌ للمصلين” أو “لا تقربوا الصلاة” دون إكمال الآيتين الكريمتين، فيتعلق بـ”وجود” أكثر من 70 ألف مقاتل سلفي في سوريا. بماذا يسمّون هذا “الوجود” السلفي في بلد مستقل؟
الشعبُ السوري انتفض سلمياً على نظامه الديكتاتوري الفاسد لإسقاطه وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي بدله، ولكن ثورته اختطفت وعُسكرت، بظهور المعارضة السورية المسلحة التي دخلت في حرب من النظام، وكان ذلك خطأ فادحاً فوّت على السوريين فرصة الإطاحة بنظامه الاستبدادي على الطريقة الإيرانية ضد الشاه، ولو بتضحيات جسيمة، ثم تضاعفت الأخطاء حينما تحوّلت إلى حرب طائفية نتنة استنفرت عشراتِ الآلاف من المقاتلين السنة والشيعة من مختلف الدول والذين حوّلوا سوريا إلى ساحة حرب طاحنة، لم تُفض بعد قرابة ثلاثة أعوام سوى إلا إلى مقتل نحو 125 ألف سوري ومسلم من مختلف الجنسيات، وسقوط مئات الآلاف من الجرحى والمعطوبين وهروب 9 ملايين سوري من ديارهم التي دُمِّرت وتحولت إلى أطلال، ولاتزال فصولُ المأساة تتوالى والخسائر تتراكم، دون أن يلوح في الأفق إمكانية حسم الصراع عسكرياً لصالح هذا الطرف أو ذاك.
سوريا الآن أمام طريقين: إما أن “ينسحب” جميع المقاتلين الشيعة والسلفيين منها ويتركوا البلد لأهله، ليبحثوا عن حل سلمي ويشرعوا في تضميد الجراح وإعادة بناء ما تهدّم…
وإما أن يستمرّ فيها الاقتتال والتناحر الطائفي لسنوات أخرى، وهذا الخيار الخطير قد يؤدي إلى انهيار الدولة وصوملتها، ويصبح تفكيكُها وانقسامها إلى دويلة للعلويين وأخرى للسنة وربما ثالثة للأكراد أمراً واقعاً لا مناص منه، ثم يتواصل التناحرُ الأهوج بين السنة والشيعة، ويمتدّ بنفس الضراوة إلى دول أخرى كلبنان والعراق واليمن والبحرين والسعودية والكويت وأفغانستان وباكستان وإيران والجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى، وإلى كل بلد تعيش فيه أقلية شيعية إلى جانب أغلبية سنية، أو العكس، ولن يؤدِّ كل ذلك سوى إلى ملايين القتلى وغرق العديد من البلدان غير الموحّدة مذهبياً في حروب أهلية ونزاعات لا آخر لها، وسيعيش العالمُ الإسلامي أكبر فتنة طائفية في تاريخه كله، وستتراكم المآسي وجبالُ الأحقاد والعداوات التاريخية بين الطائفتين أكثر وبشكل يصبح معه أي صلح أمراً مستحيلاً.
إذن، على الذين يتحدثون عن “احتلال” إيران وحزب الله وكتائب أبي الفضل العباس لسوريا، ويطالبون هذه الأطراف بـ”الانسحاب” منها، أن يكونوا موضوعيين منصفين ولا ينسوا “احتلالهم” هم لهذا البلد المستقل من خلال السماح بتسرّب عشرات الآلاف من المقاتلين السلفيين من مختلف أنحاء العالم إلى سوريا انطلاقاً من حدودهم معها، وكذا تمويل هذه الجماعات بأكثر من 10 ملايير دولار، ودعمها بأطنان من الأسلحة الخفيفة والثقيلة، والقصف الإعلامي الفضائي المركّز الذي لا يكفّ عن شحن الناس بخطابه الطائفي البغيض عوض التركيز على خطاب السلم والحوار والصلح بين الطائفتين المتقاتلتين.
كفى أنهار الدم التي سالت إلى حدّ الساعة.. كفى شحنا وتحريضا وتجييشا للمسلمين ضد بعضهم البعض في الوقت الذي لا تجد فيه فلسطين المستضعَفة من يقف إلى جانبها ضد التغوُّل الصهيوني والتهديد بتهويد القدس وهدم الأقصى. لماذا يُقتل عشراتُ الآلاف من المسلمين، سنة وشيعة، في فتنةٍ نتنة بسوريا عوض أن يستشهدوا في فلسطين في سبيل تحريرها من الاحتلال الحقيقي، وهو الاحتلال الصهيوني؟ هل ترون هذا الوضعَ طبيعياً؟