-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تطبيقات الشورى في عهد الملك العادل نور الدين محمود الزنكي (1)

تطبيقات الشورى في عهد الملك العادل نور الدين محمود الزنكي (1)

تولّى حركةَ المقاومة الإسلامية ضدَّ الصليبيين في عهد الحروب الصليبية بعد عماد الدين زنكي عام 541هـ ابنُه نورُ الدين محمود، وقد تميّزت شخصيتُه بمجموعة من الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة التي ساعدته ـ بعد توفيق الله ـ على تحقيق إنجازاته العظيمة، والتي مِنْ أهمِّها: الجدية، والذكاء المتوقد، والشعور بالمسؤولية، وقدرتُه على مواجهة المشكلات والأحداث، ونزعته للبناء والإعمار، وقوة الشخصية، ومحبة المسلمين له، واللياقة البدانية العالية، وتجرّده وزهده الكبير، وشجاعته الفائقة، ومفهومه للتوحيد، وتضرعه ودعاؤه، ومحبته للجهاد والشهادة، وعبادته، وإنفاقه، وكرمه.

واتخذ نور الدين محمود من سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله نموذجاً يقتدي به في دولته، فقد كتب الشيخ العلامة أبو حفص معين الدين عمر بن محمود الأربلي سيرةَ عمر بن عبد العزيز لكي يستفيدَ نور الدين منها في إدارة دولته، ولقد اتت معالمُ الإصلاح والتجديد الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية، فقد اقتنع نورُ الدين بأهمية التجارب الإصلاحية في تقوية وإثراء المشروع النهضوي، وأهميته في إيجاد وصياغة الرؤية اللازمة في نهوض الأمة وتسلّمها القيادة، فللتجارب التاريخية دورٌ كبيرٌ في تطوير الدول، وتجديد معاني الإيمان في الأمة.

معالم التجديد والإصلاح في عهد نور الدين:

وكانت أهمُّ معالم التجديد والإصلاح التي قام بها نور الدين محمود الحرصَ على تطبيقِ الشريعةِ، ولقد تحققت في دولةِ نور الدين محمود آثار تحكيم شرع الله من التمكين، والأمن،

والاستقرار، والنصر، والفتح المبين، والعز، والشرف، وبركة العيش، ورَغَدِ الحياة في عهده، وانتشار الفضائل، وانزواء الرذائل.

وكان نور الدين محمود قدوةً في عدله، أسرَ القلوبَ، وبهرَ العقول، فقد كانت سياسته تقومُ على العدل الشامل بين الناس، وقد نجحَ في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطعَ النظير، حتى اقترنَ اسمُه بالعدل، وسمّي الملكَ العادلَ.

وكان من أسبابِ نصر اللهِ لهذا الملك العادل على أعداء الإسلام إقامته للعدل في الرعية، وإيصال الحقوق إلى أهلها، فالعدلُ في الرعيةِ؛ وإنصافُ المظلوم؛ يبعثُ في الأمة العزةَ والكرامةَ، ويولّدُ جيلاً محارباً، وأمة تحررت إرادتُها بدفع الظلم عنها، وقد سجّل التاريخُ بأنَّ نور الدين ساد العدلُ في دولته، وتمَّ إيصالُ حقوق الناس إليهم، فنشطوا إلى الجهاد والدفاع عن دينهم وعقيدتهم وأوطانهم وأعراضهم.

ومن أبرز أعماله التجديدية إقامة العدل، فقد أولى نور الدين المؤسسة القضائية اهتماماً كبيراً، وجعلها قمةَ أجهزته الإدارية، وخوّل القضاةَ على اختلاف درجاتهم في سلم المناصب القضائية صلاحياتٍ واسعةً، إنْ لم نقل مطلقةً، ومنحهم استقلالاً تاماً، لكونهم الأداة التنفيذية لإقرار مبادىء الحقِّ والعدل، وتحويل قيم الشريعة ومبادئها إلى واقع ملتزم، وتوجت جهودُه بإنشاء دار العدل التي كانت بمثابةِ محكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين، وإرغامهم على سلوك المحجّة البيضاء، أو طردهم واستبدالهم بغيرهم إن اقتضى الأمر.

ولم يترك نور الدين في بلدٍ من بلاده ضريبة ولا مكساً ولا عشراً إلا ورفعها جميعاً من بلاد الشام والجزيرة وديار مضر (ما بين البليخ والخابور) وغيرها مما كان تحت حكمه، وكـانت النتيجة الطبيعيةُ لذلك أن نشطَ الناس للعمل، فأخرج التجارُ أموالهم، ومضوا يتاجرون، وجاءت الجباياتُ الشرعية بأضعاف ما كان يُجبى من وجوه الحرام.

يقول ابن خلدون: «العدوانُ على الناسِ في أموالهم ذاهبٌ بامالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذٍ من أنَّ غايتها ومصيرها انتهابُها من أيديهم.

وإذا ذهبتْ امالُهم في اكتسابها وتحصيلها، وانقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، كسدت أسواقُ العمران، وانتقصت الأحوالُ، وعلى قدر الاعتداء ونسبتِه، يكونُ انقباضُ أيديهم عن المكاسب».

ويقول: «العدوانُ على الناسِ في أموالهم وحُرُمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم يفضي إلى الخلل والفساد دفعةً، وتنتقضُ الدولة سريعاً». (الصلابي، الدولة الزنكية، ص 635)

الشورى في القضايا العامة:

اهتمَّ الملك العادل نور الدين محمود بالشورى، فقد رأى أهمّيتها في حيوية الأمة وأمنها واستقرارها، والأهمُّ من ذلك كلّه أنَّ الله أنزل فيها سورة في القرآن الكريم حملتِ اسمها، وهو مبدأٌ أرشدَ إليه القرآن الكريم، وهو يمثّل أرقى أشكال التعاون، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [الشورى: 38] كما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه بشكل لا يَقْبَلُ التأويلَ في قوله تعالى:: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ *} [آل عمران: 159]

قال بشّار بن بُرد: (الصلابي، فقه النصر والتمكين، ص 254)

إذا بَلَغَ الرأيُ المشورةَ فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ لبيبٍ أو مَشُوْرَةِ حَازِمِ

وَلا تَجْعَلِ الشُّوْرَى عليكَ غَضَاضَةً فإنَّ الخَوَافِي قُوَّةٌ للقَوَآدم

وكان نور الدين محمود يرى أنّ الشورى في الشريعة الإسلامية واجبةٌ على الحاكم، وإلى هذا القول ذهبَ كثيرٌ من العلماء والفقهاء، فلا يحلُّ للحاكم أنْ يتركَها، وأنْ ينفردَ برأيه دون مشورة المسلمين من أهل الشورى، كما لا يحلُّ للأمة الإسلامية أن تسكتَ عن ذلك، وأن تتركه ينفرِدُ بالرأي دونها، ويستبدّ بالأمر دون أن يشركها فيه. (الصلابي، الدولة الزنكية، ص 254)

فالأمة لا تنهضُ إلا إذا أخذت بفقه النهوض، والذي منه ممارسة الشورى في نطاقها الواسع، ولقد اعتمدها نور الدين محمود، ولم ينفرد باتخاذِ القرارات، بل تبادل الآراء في كل أمور الدولة، فكان له مجلسُ فقهاءٍ يتألّفُ من ممثلي سائر المذاهب وأهلِ الاختصاص في شؤون الحياة، يبحثُ معهم في أمور الإدارة والنوازل والميزانية.

وثمّةَ وثيقةٌ قيّمةٌ يثبتُها أبو شامة بنصّها عن أحد المحاضر التي دُوِّنَ بخصوص عدد من قضايا الوقف والأملاك، كانت قد أدخلت ضمن أوقاف الجامع الأموي بدمشق، وسعى نور الدين إلى فصلها وإعادتها إلى قطاع المنافع العامة، وبخاصة مسائل الدفاع والأمن، وقد تمثلت في تلك الوثيقة بوضوحٍ الرغبةُ الجادّةُ لدى نور الدين في الأسلوب الشوري الحر، باعتباره الطريقَ الذي لا طريقَ غيرُه للوصول إلى الحق (خليل، نور الدين محمود، ص 80)

ففي تاسع عشر صفر سنة أربع وخمسين وخمسمئة أحضر نور الدين أعيان دمشق من القضاة ومشايخ العلم والرؤساء. (خليل، نور الدين محمود، ص 80)

وسألهم عن المُضافِ إلى أوقاف الجامع بدمشق من المصالح ليفصلوها منها، وقال لهم: «ليس العملُ إلا ما تتفقون عليه، وتشهدون به، وعلى هذا كان الصحابةُ رضوان الله عليهم يجتمعون ويتشاورون في مصالح المسلمين، ولا يجوزُ لأحدٍ منكم أن يعلم من ذلك شيئاً إلا ويذكره، ولا ينكِرُ شيئاً مما يقوله غيره إلا وينكرنه، والساكت منكم مصدِّقٌ للناطق، ومصوِّبٌ له».

فشكروه على ما قال، ودعوا له، وفصلوا له المصالح من الوقف، فقال نور الدين: «إنّ أهم المصالح سد ثغور المسلمين، وبناء السور المحيط بدمشق وعمل الخندق لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم».

ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوزُ صرفُها في عمارة الأسوار وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين، فأفتى شرف الدين المالكي بجواز ذلك، ومنهم من روّى في مهلة النظر، وقال الشيخ ابن عصرون الشافعي: لا يجوزُ أن يُصْرَفَ وقفُ مسجد إلى غيره، ولا وقفٌ معيّنٌ إلى جهة غير تلك الجهة، وإذا لم يكن بدٌّ من ذلك فليس طريقُه إلا أن يقترضه مَنْ إليه الأمرُ من بيت مال المسلمين، فيصرفه في المصالح، ويكون القضاء واجباً من بيت المال، فوافقه الأئمة الحاضرون معه على ذلك.

ثم سأل ابن أبي عصرون نور الدين: هل أنفِقَ شيءٌ قبل اليوم على سور دمشق وعلى بناء (بعض) العمارات المتعلّقة بالجامع المعمور بغير إذن مولانا؟ وهل كان إلا مبلغاً للأمرِ في عمل ذلك؟ فقال نور الدين: «لم ينفق ذلك، ولا شيءٌ منه إلا بإذني، وأنا أمرت به». (خليل، نور الدين محمود، ص 81)

المراجع:

· الدولة الزنكية، د. علي محمد الصلابي.

· فقه النصر والتمكين في القران الكريم، د. علي محمد الصلابي.

· نور الدين محمود: الرجل والتجربة للدكتور عماد الدين خليل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!