-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قناة “المعرفة” التلفزية.. مشروعٌ واعد

لمباركية نوّار
  • 1077
  • 6
قناة “المعرفة” التلفزية.. مشروعٌ واعد
ح.م

(من فتح مدرسة أغلق سجنا)، هي عبارة خالدة صاغها عقلٌ حكيم قبل أن يرددها لسانه، ويلقي بها في آذان الناس، ويرغّبهم في إنشاء المدارس. وقد قيلت هذه العبارة فيمن بادر إلى فتح مدرسة واحدة يقصدها عددٌ محدود من الراغبين، فما بالنا بمن أنشأ قناة تلفزية لنشر التعليم بعد أن تقيم في كل بيت عامر حجرة للدراسة؟ فمن الأكيد أن ذكره سيكون عظيما، وأن أجره لن يكون إلا متكاثرا ومتزايدا ووفيرا.

الأمم الحية هي الأمم التي لا تضيع فرص التعلم بانتباه من الظروف الصعبة التي تمر بها، وتُحسن استصدار العبر منها لاستدراك ما فاتها وتعويض ما فرّطت فيه في زمن الهناء والرخاء. فرغم الحرج الأكبر الذي أوقعتنا فيه نازلة الفيروس التاجي المباغت، إلا أن التفكير السليم أفضى إلى إنشاء قناة تلفزية تعليمية دائمة سميت بقناة “المعرفة”. وهي منجز إيجابي مشكور الذكر، وسيظل يلاحق بالثناء والإشادة.

أرخى الفيروس التاجي ظلاله الدامسات على كل مناحي الحياة في أكثر من مائة وخمسين دولة، ورجها رجا عنيفا، وأوقف أنفاس نشاطات كثيرة إلى حد أن بعض مدن هذه الدول تساوى فيها النهار بالليل، واغتيلت في شوارعها وأزقتها وساحاتها الحركةُ بعد أن آوى سكانها إلى منازلهم، ومكثوا فيها مرغمين. وأجبِرت المحلات ومقارّ الإدارات والهيئات على غلق أبوابها. ولأول مرة في التاريخ، حسب ما أعلم، تُفرغ المدارس أقسامها من المتعلمين، وتوصد أبوابها. فحتى في أزمات الحروب والكوارث العظمى، لم تكن أصوات المربين تُخمد في الفصول الدراسية أو في المخابئ الآمنة أو في المغارات والكهوف المعزولة، ولنا في زمن ثورتنا التحريرية سابقا وفي ما يجري في سوريا واليمن حاليا خيرُ دليل. وكأنّ تعطل الدراسة في المدارس في نظر الناس هو دليلٌ على وضع بالغ الجسامة والخطورة. وتبرز هذه المقاومة قيمة طلب العلم الذي وضعه بعضهم إلى جانب ضرورة أهم عنصري الحياة، وهما: الهواء والماء. وفي هذا المناخ غير المعهود، وجدت بلدان العالم نفسها، وبما فيها الجزائر، في ممرٍّ مغلق ووضع محرج. وأيقنت تقصيرها في امتلاك قناة تلفزية تعليمية تكون ظهيرا يدعم ويؤازر عمل المدرسة النظامية.

يُختار لميلاد الإنجازات العظمى الزمانُ المناسب، ولذا جاء إنشاء قناة “المعرفة” التلفزية التعليمية متزامنا مع الذكرى الرابعة والستين لـ”يوم الطالب”. وهو يومٌ حاضر في ذاكرتنا الوطنية المشتركة وفي تاريخنا المعاصر، وفيه استجاب الطلبة الجزائريون لنداء جبهة التحرير الوطني التي حملت لواء الجهاد ضد المستعمِر المستبد، وغادروا عن اقتناع مقاعد الدراسة ودفء الأقسام في الثانويات والمعاهد والكليات، والتحقت أعدادٌ معتبرة منهم بالجبال بعد أن أيقنوا أن نيل الشهادة في ساحة الوغى، إن كُتبت لهم، دفاعا عن حرمة الوطن أثمن بأضعاف من الشهادة العلمية المحرزة، ولو جاءت من أرقى الجامعات. وفي هذه المزاوجة البهيَّة بين الحدثين رُبط لحاضرنا الذي نريده أن يكون سعيدا بماضينا الأمجد. وقد تكون لها معاني ومغازي أخرى عند من يحسن استقراء عناصر التاريخ وتوظيفها والاستفادة منها. أما اسم “المعرفة” الذي أطلق على القناة الناشئة ففيه نظرة ذكاء ومسحة انتقاء، فالتعليم هو أهمّ وسيلة للحصول على التربية والمعرفة معا، والمعرفة التي تُستقدم عن طريق التعليم تكون ممنهجة، أي نافعة في أوانها، وقابلة للتحويل حين الرغبة في استثمارها. ومن المعروف أن مفهوم “المعرفة” أوسعُ دلالة من مفهوم “العلم”.

تفرض علينا الموضوعية ألا نتوقع بلوغ قناة “المعرفة” مبلغ ذروة الجودة والإتقان الأدائي منذ الوهلة الأولى؛ فالتجربة حديثة، وكل جديد لم يُروَّض يلتهم وقتا يصرفه في تكرار المحاولة وتصحيح المسار وإعادة التنظيم حتى يتحسّن ويرتقي. ولذا، فإنها تحتاج إلى مرافقين ناصحين مؤهّلين يمدّونها بالنصح والتوجيه والترشيد لسدّ ثغراتها وتصويب عثراتها، وإلى ملاحظين وخبراء أكْفاء ممن يملكون الزاد البيداغوجي والخبرة التربوية، وتكون تشكيلتهم مطعَّمة بعناصر من المربين الشباب الذين أثبتوا جدارتهم في مؤسساتهم التعليمية. وأن ينتقى لتنشيط حصصها معلمون وأساتذة يُشهد لهم بالأناقة في الهندام وعلو كعب في الاجتهاد، ولم يتلوّثوا بفيروس “الدروس اللصوصية” الذي قضى على كل عمل ناصع جميل. وأن تكون بمنأى عن كل وصاية نقابية ولو بالرأي؛ لأن من ساهم في إفساد المدرسة الوطنية لا يُؤتمن جانبُه.

لا نريد من دروس قناة “المعرفة” أن تكون إلقائية تلقينية جافة ومنفرة، وتطغى عليها المباشرة، ويُستحضر معها الدرس التقليدي بكل مثالبه وعيوبه. وإنما نريد أن تكون دروسها دروسا حداثية فيها الابتكار غير المسبوق، ومفعمة بالتفاعل وقادرة على التأثير، وتنتقل من التعليم العمودي الذي يتجاهل دور المتعلم إلى التعلم الأفقي الذي يجعل من المتعلم محور وأساس وركيزة العملية التعليميةـ التعلمية. ولا نرى مانعا من أن تقدِّم دروسها في فصل دراسي مصغر ينبض جوفه بالتعامل مع وضعيات تعلمية مفيدة، وينعم بتبادل الأدوار في هدوء ونظام. ونصغي فيه إلى محاولات المتعلمين، ونتابع تدخُّلاتهم، ونبصر من يقودهم محتفظا بأدوار المرافقة والتوجيه والمساعدة.

نريد أن يكون مضمون وحوصلة كل درس من دروس قناة “المعرفة” بمثابة إجابة عن سؤال مثير يطرح في بدايته طرحا جاذبا، ويعمل على إثارة هرج ومرج وزوبعة في ذهن كل متعلم متابع في صفحته الذهنية، وتولِّد عنده جوعا معرفيا يحرضه على الاشتغال والبحث في تركيز وانتباه حتى يُشبع نهمه.

نريد أن نرى في قناة “المعرفة” دروسا تعتني بقدرات كل متعلم، وتعمل على تحريكها وتطويرها تدريجيا وفق منظور متدرِّج مدروس. ولا نريدها أن تكون نسخا مستنسخة مشتقة من الدروس اللصوصية الفجة التي لا ترى في الاكتساب المعرفي سوى ملء الأذهان حتى إتخامها وتخزين المعارف فيها تخزينا يقتلها “معرفة ميتة”، ويمنع الاستفادة منها في الحياة.

نريد من دروس قناة “المعرفة” أن تعيد للتقويم الدراسي مكانته في كل عملية تعلمية، وأن تجعل منه صِنوا لصيقا بمراحلها المتلاحقة. وأن يختم كل درس بتقويم تحصيلي يختبر مدى امتلاك الكفاءة أو الكفاءات المسطرة له على أن يترك في ذمة المتعلمين المتابعين لها لحله اعتمادا على مجهود كل واحد منهم لتتقوى عندهم نزعة العمل الفردي الذي قضى عليه قبح الدروس اللصوصية.

نريد من أساتذة ومعلمي قناة “المعرفة” أن يخاطبوا المتعلمين بلغةٍ عربية فصحى سليمة، تتصف بالدقة والاختصار، وبالضبط والإحكام، وترفض العجمة والتقعُّر، وتبتعد عن التلبُّك وغريب اللفظ وهجينه حتى تُقابَل بالفهم السريع والاستيعاب السليم، وأن تكون بعيدة تماما عن الدارجة التي تقلل من درجة الاستفادة؛ لأن المتعلم الذي لا يتحكم في اللغة يقع أسير العجز في التعبير، ويكون مآله فقدان علامات في الاختبارات. اللغة هي الأساس، وهي مادة المواد، وتعدّ أم الكفاءات وسيِّدتها. وأما السيطرة عليها فيعني امتلاك كفاءة مستعرضة أساسية تجوب كل المواد التعليمية بعد أن تتكيف مع خصوصية كل مادة.

نريد من دروس قناة “المعرفة” أن تكون نماذج للدروس الناجحة من حيث الأداء والمحتوى يستفيد منها المعلمون والأساتذة الجدد، ويتخذون من متابعتها حلقات تكوينية متجددة تغدق عليهم بما يحتاجون إليه في أعمالهم اليومية من نوافع يلقحون بها أعمالهم مع تلاميذهم.

نريد من قناة “المعرفة” أن تركز نشاطاتها على دروس مستويات الامتحانات في المراحل الثلاث؛ لأن متعلمي هذه المستويات هم الأكثر عرضة لمفاسد أم الخبائث: الدروس اللصوصية. وبذلك تخفف من تعاظم مصاريف أولياء الأمور. واستمالة الأولياء بعد أن يثقوا فيها هو توسيعٌ لدائرة المناصرين المتعلقين بها.

نريد من قناة “المعرفة” أن تهتم بتعليم القرآن الكريم، وترويج طرائق حفظه وفهمه فهما يتوافق مع السنة النبوية الشريفة بعد شرحه شرحا مبسطا، وأن تخصص مباريات ومنافسات تشجيعية بين الصغار في هذا الشأن. ونريدها أن تهتم بالموهوبين في جميع المواد والفنون، وأن ترعاهم بالعناية، وأن تساعدهم على صقل ومحص مواهبهم.

نريد من قناة “المعرفة” أن تخصص حصصا للتربية والتوجيه لإشاعة السلوكات الحسنة بين جمهور المتعلمين، وأن تودع بين أيديهم رسائل توجيهية يمكنهم توصيلها إلى أفراد أسرهم، ومن بعد ذلك إلى مجتمعهم لحثّهم على القيم التي تبني المواطنة التواقة إلى كل جميل كحب الوطن وتمجيد تاريخه ورجاله والتضحية في سبيله والتسامح والتعاون والحوار وقبول الرأي الآخر في إطار مبادئ الديمقراطية والمحافظة على البيئة ونبذ العنف واحترام الوالدين وتوقير المعلمين…

نريد من قناة “المعرفة” أن تنتهج أرقى الأساليب لتعلُّم اللغات الأجنبية، وخاصة اللغة الانجليزية، لأن تعلم هذه اللغات هو الذي يهيِّئ لظهور الباحثين المتفوقين والعلماء المتميزين في كل التخصصات حتى نخرج من طور استهلاك المعرفة إلى طور صناعتها اعتمادا على أنفسنا.

نريد من قناة “المعرفة” أن تكون أكثر مما ذكرنا، ورجاؤنا منها وحيد، وهو أن تكون أول خطوة عملية للانقلاب على عروش الدروس اللصوصية التي لا تُذكر إلا بالسُّوء والفحش.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • خليفة

    قناة المعرفة تكون فعالة اذا عملت على نشر العلم و المعرفة بطرق تفاعلية بين الاستاذ و تلاميذته، يجب البحث على طرق تقنية تصنع هذا التفاعل بين المعلم و المتعلم و لو عن بعد ،بحيث يتمكن الجميع من المتابعة و المشاركة الفعالة في انجاز الدروس و التطبيقات المطلوبة و خاصة للاقسام المعنية بالشهادات،و بهذه الوسيلة يمكن القضاء على الدروس الخصوصية ، التي عانى منها الاولياء ،و التي حولت عقول التلاميذ الى علب الية تتقن الحفظ و لا تحسن الفهم.

  • محمد

    استدراك. لقد نسبت سهوا جملة"البحر في أحشائه الدر كامن" للمنفلوطي بينما هي للشاعر حافظ إبراهيم. فمعذرة

  • جمهورية الجهل المقدس

    للمعلق 1 : المشكل ليس في كيفية ضبط القناة يا ع الرزاق بل في محتوى هذه القناة الذي لا من شك أن لن يختلف عن تلك التي عودتنا عليها في تلك القنوات السابقة والتي تتحمل قسط وفير من الجهل المتفشي في عقولنا حيث أنشأت لتنوير المواطن فاذا بها تدخله في مستنقع من الظلام

  • kaouasse

    لا يمكن الحديث عن قناة تلفزية للمعرفة في بلد اللامعرفة

  • قاوسي

    تحية حارة الى صاحب قناة المعرفة الحقيقية السيد " قوقل " الذي سمح لنا بمعرفة ما لم تعرفنا به برامج مدارسنا المنكوبة على مدار عشرات السنين وكذلك قنواتنا الاعلامية

  • عبد الرزاق

    بارك الله فيك يا صاحب المقال وفيت وكفيت هذا مايجب أن تكون عليه عذه القناة فقط المشكلة في كيفية ضبط القناة (توجيه الهوائي ) ومن ضبطها فليخبرنا