الرأي

أضواء على كتب السنة 2/2

التهامي مجوري
  • 3304
  • 26

وقبل الوصول إلبى النتيجة النهائية التي نبحث عنها عادة في مثل هذه الإشكالات، لا بد إطلالة سريعة على كيفية جمع الحديث وتدوينه قبل أن تصبح 1400 كتاب أو أربعة عشر كتابا أو تسعة كتب أو ستة كتب.

 كأني بأهل الرواية الأوائل ابتداء من عصر الفتنة الكبرى، استشعروا الخطورة على الحديث النبوي، وذلك باحتمال الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وقع بالفعل فقد قيل لأحدهم –واحد من الزهاد- وضع أحاديث للترغيب في بعض العبادات وبعض الأمور الأخرى إن الرسول صلى الله عليه وسلم “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”، فقال نحن نكذب له لا نكذب عليه!!. ثم تمزقت الأمة مذاهب وشيعا وطوائف، فالشيعة مثلا يترددون في الرواية عن بعض الصحابة بسب طعنهم فيهم!!، بينما الصحابة عند أهل السنة عدول كلهم، وكذلك الخوارج لهم طقوسهم ومبادئهم بحيث كادوا يخرجون كل الأمة من الملة بسبب تشددهم، أما التعصب المذهبي الذي جاء بعد ذلك ففيه من الكوارث ما فيه. يروي الخطيب البغدادي عن أحدهم أنه قال “يأتي زمان على أمتي فيه رجل يدعى محمد بن إدريس أشد الدين من إبليس”!! ويقصد الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله.  

في هذه المرحلة المبكرة لم يقع شيء ولكنهم يبدو أنهم شعروا بإمكانية وقوعه، فكانوا يحرصون على جمع المرويات بحفظها وتدوينها، وعلى معرفة الرواة من خلال العلاقات التي كانت بينهم، وحفظ وتدوين الرأي فيهم والموقف منهم، وضبطوا كل ذلك بضوابط علمية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الغاية المرجوة وهي الصدق والضبط في رواية الحديث النبوي، فكانوا مثلا لا يقبلون في الجرح والتعديل كلام الأقران في بعضهم البعض، فكلام الإمام مالك وجلالة قدره غير مقبول إذا كان متعلقا بمحمد ابن إسحاق؛ لأنه من أقرانه، ورد كلام القرين في قرينه مظنة تأثير القضايا الآنية على مصير الحديث، كالغيرة والحسد وتأثير التشويش عليهما من قبل الغير…، ولا يقبلون كذلك رواية رُوَاة الغرائب، يعني كل من اشتهر برواية الغرائب مطعون فيه؛ لأن تتبعه للغرائب نوع التشهي، أي أن الذي عرف بهذا التوجه، يتسلل إليه الهوى والشهوة فيقع في الكذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي التلبيس عليه، وبلغت بهم الدقة في تعريف حملة الحديث أنهم يفرقون بين صلاح دين المرء وتقواه، وبين القدرة العلمية، فكانوا يردون أحاديث لأتقياء من أهل العلم؛ لأنهم لا يملكون شروط الرواية في الحفظ والضبط، ويقبلونها ممن هم أقل منهم تقوى وتدين؛ لأنهم من الحفاظ والضابطين والعدول، مثل ما روي عن البخاري أنه قبل رواية رجل من الخوارج؛ لأن الخوارج لا يمكن أن يكذبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ باعتبار أن الكذب من الكبائر فلا يمكن ان يكذبوا، ومن ثم إذا توفرت الشروط الأخرى.

وهذه الدقة ووضع المصطلحات والحكم بالقبول والرفض كله جاء بعدما جمعت الأحاديث حفظا ثم دونت في كتب، كما حفظت المعلومات الكاملة عن الرجال ودونت في كتب.

أم قبل ذلك وابتداء من الفتنة الكبرى كما أشرنا إلى ذلك سلفا، فقد كانوا يدونون كل ما يصلهم عن طريق هؤلاء المقبولين والمردودين معا أو عن طريق غيرهم، للمحافظة على المرويات من الضياع، وفي نفس الوقت لتمكين الأجيال اللاحقة من دراسة تلك المرويات وأسانيدها فيما بعد، لا سيما أن الاهتزازات التي قد تتعرض لها الأمة ترشحها لتضييع الرسالة، ومن ذلك أن أسانيد الرواية بين السنة والشيعة فيها خلاف كبير؛ لأن الشيعة لهم تَحَفُّظ على بعض الصحابة وليس لهم تحفظ على بعض الرواة فحسب.

فالمهم أن كثرة هذه الروايات هي عبارة عن اهتمام مبالغ فيه في حفظ وجمع الحديث من أي وعاء كان، ثم وضعت علوم لحامية تلك المرويات من الضياع لأنها وحي، ثم تطورت كيفية التعامل مع تلك النصوص ولا زالت تتطور إلى اليوم، بحيث لم يمر عصر يخلو من إضافة هامة مساعدة على دراسة كتب الحديث، سواء من قبل المسلمين أو غيرهم.

ومن الجهود الهامة في خدمة السنة جهود الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وأهمها خدمته للسنن الست، حيث درس أسانيد السنن الست، وفرق بين الصحيح والضعيف فيها، ونشرها، بعناوين على سبيل المثال لا على سبل الحصر: كصحيح أبيي داوود وضعيف سنن أبي داوود، وعمل نفس العمل مع الكثير من كتب السنة، ثم انتقل إلى كتب أخرى منها ما كان مخطوطا فبعثه، ومنها ما كان مطبوعا طبعة أو طبعات مشوهة فحققه…، وكذلك عمله الذي تميز به “سلسلة الأحاديث الصحيحة” و”سلسلة الأحاديث الضعيفة”، ومع الشيخ الألباني كثير من العلماء، الشاميين والهنود خاصة، كنور الدين عتر، وملا خاط، وشعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط…، وآل المباركفوري وعيرهم كثير. 

ولذلك ورغم هذه الكثرة في الكتب والمرويات التي يعلمها أهل الإختصاص ويشتغلون بها، فإن الإمامين ابن حجر والذهبي رحمهما الله، وهما من هما في الحديث والجرح والتعديل، يؤثر عنهما القول بأن الأحاديث المسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتجاوز الأربعة آلاف حديث، ومع ذلك اشتغلوا على كل الكتب ودرسوا وحققوا ونقدوا وقيموا…إلخ، ولم يؤثر عن أحدهم أنه قال لماذا تصنف كل هذه الكتب؟ أو ما حاجة الأمة إلى هذا الكم الهائل من الكتب؟

ومنذ ذلك الوقت والعلماء يتكلمون عن القدر الكافي المعني عن غيره من الكتب، فيقولون مثلا إن المجتهد في العبادات لا يحتاج إلى أكثر من السنن الستة، أو الصحيحين فقط، أو سنن أبي داوود..إلخ، ومن ذلك وضع الشيخ صالح الشامي كتابه “معالم السنة النبوية” الذي تتبع كتب السنة في 14 كتاب، واختصرها في كتاب واحد يصل عدد أحاديثها إلى 3931 من مجموع الكتب المذكورة الـ13 + “كتاب المختارة للمقدسي”،  بعد تجريدها:

أولا: من الأحاديث المكررة، التي يرويها صحابي واحد، أو عدد من الصحابة.

ثانيا: من الروايات الضعيفة.

ثالثا: حذف الآثار الواردة عن الصحابة والأئمة؛ لأنها ليست أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعا: الحفاظ والإبقاء على الأحاديث الصحيحة التي تغطي جميع أبواب الفقه بمعانيها.

ولم يستثن الشيخ الشامي بقاعدته التي التزمها إلا 33 حديثا ضعيفا و10 أحاديث حسنة بيّن أسباب إيراده في الكتاب.

والنتيجة التي توصل إليها الشيخ صالح الشامي هي أن هذه الأحاديث التي ذكرها 3931 تمثل 55 بالمائة من صحيحي البخاري ومسلم، اللذين يراد اليوم الطعن فيهما، بالتشكيك فيهما أو في بعض أحاديثهما.

وما زاد عن هذه الـ3931 من المرويات فهو إما ضعيف أو مكرر أو أثر…إلخ، ولكن مع ذلك تبقى الحاجة إلى هذه المرويات، ولا يستغنى عنها ويجب أن تبقى في مدوناتها، ليستعين بها العلماء في فهم حركة النبي صلى الله عليه وسلم، التي هي ليست مجرد أحكام فقهية معزولة عن الحياة، وإنما هي حركة شاملة فيها السياسة والثقافة والاقتصاد والإجتماع؛ لأن رسالة الإسلام هي رسالة للعالم وليس لآحاد الناس وحسب.  

ثم إن عدد الروايات ليس بالضرورة أنها رواية واحدة رواها الصحابة، وإنما قد تكون روايات قالها الرسول في مجلس واحد أو في مجالس متعددة يمكن أن يستفيد منها الباحث في أمور أخرى غير الأحكام الفقهية وما توحي به ألفاظها، وكذلك الحديث الضعيف، قد يكون في مستوى من الضعف الذي يقبل الارتقاء؛ لأن أهل الحديث لهم طرق في معرفة الأسانيد التي تقبل الارتقاء والأسانيد التي لا تقبله.

على أن من مصطلحاتهم في الصحيح أن تتوفر فيه شروط الصحيح “بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة”، وإذا لم تتوفر فيه هذه الشروط كاملة كأن يكون الراوي عدل ولكنه خفيف الضبط، هذا يقولون عنه حديث حسن، وهذا الحديث الحسن قد يكون له طريق آخر أو طرقا حسنة فيرتقي بها من درجة الحسن إلى الصحيح، ويقال عنه “صحيح لغيره” لأن صحته لم تستمد من سند واحد، وكذلك في الضعيف، عندما يفتقد إلى صفات الصحة إذا فقد صفة العدالة هذا عادة لا يرتقي.. أما إذا كان الأمر متعلق بالضبط فربما ينزل إلى دركات.. كأن يكون الراوي اختلط في آخر عمره أو يكون التردد في معرفة الراوي بين شخصين لهما نفس الإسم وعاشا في نفس العصر، أو غير ذلك من الأسباب، فإن الحديث الضعيف قد يرتقي إلى الحسن أو الصحيح، ويقال حسن لغيره، كما سمي ارتقاء الحسن إلى مرتبة الصحيح لغيره…

مقالات ذات صلة