-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أمتع وأنفع رحلة نسيها كثير من المسلمين!

سلطان بركاني
  • 1312
  • 0
أمتع وأنفع رحلة نسيها كثير من المسلمين!

ها نحن نعيش الأيام الأخيرة من شهر ذي القعدة الحرام، ونرى بأعيننا وعيون قلوبنا وأرواحنا وفود الحجيج تنطلق من المطارات، باتّجاه البقاع الطّاهرة وأرض خاتمة الرّسالات، ونرى إخواننا المصطفين لحجّ هذا العام يحثّون خطى القلوب قبل خطى الأقدام في أعظم وأهمّ وأغلى رحلة في هذه الدّنيا، رحلة الحجّ؛ رحلة يخرج بها العبد المؤمن من ذنوبه ويرجع كيوم ولدته أمّه، ويكتب اسمه -بإذن الله- في ديوان أهل الجنّة.. رحلة ينزل فيها الحاجّ ضيفا على أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين، فيكرمه ويغدق عليه من مغفرته ورحمته وفضله ويدهشه بعطائه الجزيل.

 هي رحلة يحثّ فيها العبد المؤمن خطاه على أرض حُثّت عليها أشرف الخطى، خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم، أرض تحمل بين طياتها أجسادَ رجال سطّروا بدمائهم وأنفسهم وأموالهم أنصع تاريخ لأمّة الإسلام، وتحمل على ظهرها أعظم ذكريات لهذا الدين.. هذه مدينة النبيّ المجتبى عليه الصّلاة والسّلام. هنا كان يصلّي، وهناك كانت حجرات أزواجه. هذا قبره، وهنا كان منبره الذي كان يخطب عليه. لطالما جلس -عليه الصّلاة والسّلام- في هذا المكان وجلس حوله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة والزبير. هنا كانت غزوة بدر وهنالك كانت غزوة أحد.. وهذه مكّة المكرّمة التي سارت على ثراها أقدام جُلّ الأنبياء عليهم السّلام.. هنا كانت قصّة خليل الله إبراهيم، وهنا كان مبدأ الرّسالة الخاتمة. هنا أوذي نبيّ المرحمة -صلى الله عليه وآله وسلّم- ووضع سلا الجزور على ظهره وهو ساجد لربّه. هذه الصّفا وتلك المروة وذاك ماء زمزمَ الطّاهر. ذاك غار حراء وذاك جبل عرفات… مقامات أعظِم بها من مقامات، وذكريات يا لها من ذكريات.

قلوب الملايين من المسلمين تحترق كلّ عام في مثل هذه الأيام شوقا لتلبية نداء الحجّ وزيارة تلك البقاع؛ مسلمون في شرق الأرض وغربها، في الهند وإندونيسيا وباكستان والفلبين وفي كلّ مكان، تسيل دموعهم شوقا لرؤية بيت الله العتيق، فلكَم سمعنا عن إخوان لنا مسلمين في بلاد الأعاجم يذرفون الدّمعات ويرفعون الآهات، شوقا لبيت الله الحرام. ولكَم سمعنا عن أحوال مَن أمكنه الله من الحجّ منهم، ممّن سطّروا بفطرتهم أروع المواقف، دموع تنهمر وألسن تلهج بالذّكر والدّعاء وأقدام تحثّ الخطى وتسابق الدّقائق والسّاعات، ولو أمكن الواحدَ منهم أن يطير لطار من شدّة الفرح، ومنهم من يتمنّى ويدعو الله أن يقبض روحه في تلك البقاع.

هذه حال إخواننا المسلمين في الهند وباكستان وفي كثير من البلاد، فماذا عنك أنت أخي المؤمن، يا من تقرأ هذه الأسطر؛ كيف هي حال قلبك مع الحجّ؟ هل أنت متشوّق له؟ هل تذرف دموع الحرقة وأنت ترى الوفود تنطلق كلّ عام بينما لا تزال أنت مع المخلّفين؟ هل حبسك عن الحجّ حابس الفقر والقرعة أم إنّها الدّنيا الغرّارة التي ألهتك وشغلتك؟

لو صدقنا مع أنفسنا لقلنا إنّ الدّنيا هي التي حالت بين كثير منّا وبين الحجّ، المعاصي والذّنوب والغفلة هي التي منعت كثيرا منّا الوصولَ إلى تلك البقاع، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِين﴾.

إنّ ممّا يؤسف لـه حقّا في هذا الزّمان، إصرارَ كثير من المسلمين على إضاعة الركن الخامس من أركان الإسلام، فكم من عباد لله رحلوا عن هذه الدّنيا ولقوا الله بأربعة أركان، ضيّعوا ركن الإسلام الخامس وانشغلوا عنه بالدّنيا وأخّروه حتّى أدركهم الموت.. يملك المسلم من الأموال ما يملك، فتجده يفكّر في تأمين مستقبل أبنائه.. ويخطّط لتبديل نوع سيارته وتوسيع تجارته.. بل ربّما تجده ينفق ويتصدّق في وجوه الخير والبرّ؛ ينشغل بنوافل الطاعات والعبادات وينسى فرضا من فرائض دينه وركنا من أركانه.. ينسى أنّ الله فرض عليه- ما دام مستطيعا- أن يحجّ بيته الحرام. يقول جلّ من قائل: }ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين﴾.. روي عن فاروق الأمّة عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن كثير أنّه قال: “من استطاع الحجّ ولم يحجّ فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا”، وثبت عنه أيضا فيما يرويه سعيد بن منصور في سننه أنّه -رضي الله عنه- قال في أيام خلافته: “لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كلّ من كان عنده جدّة فلم يحجّ فيضربوا عليهم الجزية.. ما هم بمسلمين.. ما هم بمسلمين”..

فأيّ أرض تقلّ عبدا مسلما يسمع أو يقرأ هذا الكلام ثمّ يصرّ على مماطلته وتهاونه في أمر الحجّ، عاما بعد عام.

ماذا تنتظر أخي المؤمن؟ تنتظر مرضا مقعدا لا تقوى معه على الحجّ؟ تنتظر أن يحدّد سنّ الحجّ كما حصل هذا العام؟ تنتظر أن يذهب هذا المال من بين يديك في مصالح الدنيا التي لا تنتهي أبدا؟ أم إنّك تنتظر فجأة الموت؛ تحلّ بك السّكرات فتقول }ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحا فيما تركت{.

الله الله أخي المؤمن في هذا الفرض من فرائض الله.. الله الله في هذا الرّكن الذي تحسدنا عليه أمم الأرض جميعا.. الله الله أن تنشغل عنه بالتّوسّع في حطام الدّنيا والإكثار من شهواتها وملذّاتها، فهي والله كالماء المالح كلّما ازداد العبد منه شربا ازداد عطشا.. كم من مفرّط كان يؤخّر الحجّ ويؤمّل، حتّى أتاه الأجل، فما أدرك ما كان يؤمّل، وما أخذ من حطام الدّنيا التي ألهته عن هذا الفرض من فرائض الله غير ثلاث لفائف من قماش أبيض يكون الدّود قد نازعه عليها.

فاتق الله يا عبد الله.. يا من تملك من المال ما يبلّغك بيت الله الحرام.. اتق الله وبادر بالتسجيل في الحجّ وتشوّق إليه بقلبك وادع الله بالتوفيق له بليلك.. قدّم الأسباب ما دمت تمتّع بالصحّة والعافية، وما دمت تملك من المال ما يكفيك.. لا تقل سأترك الحجّ إلى آخر العمر، فإنّك لا تدري متى يكون آخر عمرك؛ ربّما يكون بعد خمس سنوات أو ثلاث أو سنتين أو سنة واحدة.. فكم من مقبور تحت التراب هو الآن يعاني الحسرات في قبره ويتجرّع الغصص والنّدامات، لأنّه لم يحجّ.. كان كلّ عام يقول سأسجّل في القرعة العام المقبل حتى فاجأه الموت وندم حيث لا ينفع النّدم.

اتّق الله أخي المؤمن في نفسك وتذكّر قول نبيّ الهدى -صلّى الله عليه وسلّم-: “من حجّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع من الحجّ كيوم ولدته أمّه”.. نعم، ذنوب العمر كلّها صغائرها وكبائرها تغفر.. وليس هذا فقط.. اسمع قول الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام-: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس لـه جزاء إلا الجنّة”.. الحجّ المبرور ليس لـه جزاء إلا الجنّة.. فلماذا تحرم نفسك الجنّة أخي المؤمن؟

وأنت أخي المؤمن.. يا من لم تفكّر في الحجّ لفقرك وقلّة ذات يدك.. إنّ الله على كلّ شيء قدير.. تمنَّ على الله وادعُه بكلّ صدق أن يبلّغك بيته الحرام.. حدّث نفسك بالحجّ على الأقلّ مرّة كلّ عام؛ فإن يسّر الله وحججت فذاك، وإلا كنت قد أعذرت إلى الله، ولعلّ الله بمنّه وكرمه يجزيك مثل أجر من حجّ بيته العتيق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!