-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أيّ قيم ستحكمنا في المستقبل؟

محمد سليم قلالة
  • 2649
  • 14
أيّ قيم ستحكمنا في المستقبل؟

لعل التحول الأكبر والأخطر الذي تعرفه بلادنا اليوم هو ذلك الحاصل على مستوى القيم.. بسبب السياسات العامة المتبعة في مختلف القطاعات، وبسبب التبدل المستمر في قواعد ممارسة الوظيفة العامة والمسؤوليات بشكل عام، وبسبب التغير الذي حصل في قواعد الحصول على منصب الشغل، وعلى السكن، والسرير في المستشفى، بل وحتى المقعد البيداغوجي من أجل التعليم وغيرها من الحقوق، حدث انقلاب كبير في مستوى القيم في بلادنا، من شأنه أن يؤدي إلى تفكك في البنية الاجتماعية والسياسية في البلاد إذا لم يتم اعتماد سياسة وطنية شاملة لإعادة ترتيب سلم القيم لدينا الترتيب الصحيح الذي يحميها من أي انزلاق في العقود القادمة.

لقد بدا لي أن هناك مشكلة كبيرة بدأت إشاراتها واضحة منذ نحو عقدين من الزمن، تتمثل في تبدل عميق في مستوى القيم في مجتمعنا، نحو نوع من الفوضى والانكسار واللامنطق؛ أي بدل أن يحدث تطور طبيعي في القيم التي تحكم المجتمع حدثت انكسارات عديدة، عشوائية في كثير من الأحيان، أصبحت تهدد مستقبل التماسك الاجتماعي في بلادنا من خلال إشارات مُقلقة أصبحت تبرز هنا وهناك.

كُلنا نعيش بنوع من الحسرة والألم ذلك التهاوي السريع لقيم كانت جامعة في يوم ما للجزائريين، كالـتآخي، ونبذ الفردانية وتحبيذ الجماعة على الفرد، والتمييز السهل بين الحلال والحرام، والصدع بكلمة الحق، وتقديس العلم، وتقديم الكفاءة، وتوقير المرأة، وعدم طغيان المصالح المادية الضيقة، والنضال انطلاقا من قناعات فكرية محددة إن كانت يسارية أو يمينية أو إسلامية، والنظر إلى الفقر والغنى بمقاييس موضوعية، والاتفاق على حدود دنيا للتوافق الاجتماعي تمنع استخدام العنف أو تمجيده… وغيرها من القيم التي كانت في حدود معينة مشكِّلة للتوازن الطبيعي والاستقرار الذي يعرفه المجتمع.

صحيح لم يكن ذلك مطلقا، كما في كل المجتمعات والحقب التاريخية، ولم نكن نعرف مجتمعا مثاليا، كما هي حالة جميع المجتمعات البشرية، ولكننا كنا نعرف نوعا من التوازن الطبيعي في القيم اتفق بشأنه الناس عبر قرون من الزمن وتوارثوه بطريقة أو بأخرى، وكان ذلك التوازن هو السبب الرئيس في أننا لم نتفكك رغم تلك الضربات العديدة التي تلقاها مجتمعُنا خلال الحقبة الاستعمارية. ذلك الاتفاق الجمعي حول قاعدة القيم المشتركة هو الذي مكَّننا من أن نكون أمة تستطيع أن تفجر ثورة وتتماسك خلالها إلى أن تحقق النصر وتضع نفسها في طريق العودة إلى الذات وإعادة بناء الدولة التي كانت لها جذورٌ عميقة في التاريخ.

كان ذلك منذ أكثر من 50 سنة، ويُفترض أن منظومة القيم في مجتمعنا ستتعزز وتتطور بشكل يسمح لها بمواجهة التحديدات والتهديدات الجديدة التي تنتج عن التحولات الكبيرة التي تحصل في العالم، وبخاصة ضغط العولمة ووسائل الاتصال الحديثة، ويُفترض أن المنظومة السياسية ترعى في المقام الأول هذا التحول حتى لا يؤدي إلى انكسارات جزئية من شأنها أن تهدد كل الكيان الاجتماعي بالانهيار، ويُفترض أن تَدفع هذه المنظومة السياسية المعبَّر عنها في شكل سلطة قائمة وأحزاب وجمعيات مختلفة وحتى شخصيات وطنية لها اتصال بالرأي العام، أن تَدفع باتجاه إعادة صياغة المنظومة التربوية والإعلامية والثقافية، ومنظومة القوانين الضابطة للحياة الاقتصادية وآليات الفرز لانتقاء الكفاءات القيادية لأجل المناصب العليا، بما يُعزز تماسك المجتمع ووحدته وقدرته على مواجهة تلك التهديدات والتحدّيات الجديدة الناتجة عن العولمة.

ما الذي حدث؟

يبدو أننا لم ندرك أن المنظومة السياسة في بلادنا، والمتمثلة بالأساس، في السلطة السياسية، افتقدت هذا البُعد  في التطور وتحركت من منطق تسيير الأشياء لا الأفكار، أي معاملة كل  أطراف المجتمع بالمنطق الشيئي الذي يخضع للقوانين التي تحكم الأشياء وكأنها من دون قيم تحكمها ولا أفكار يمكن أن توجهها.

ونتجت عن ذلك قواعد جديدة لتعامل المنظومة السياسية مع الناس كأشياء: أنه لا يوجد من بين أفراد المجتمع من يستطيع مقاومة إغراء المال؛ كل شيء يمكن أن يُباع ويُشتَرى بالمال: الذمم، الولاءات، العدالة، الشرف… بل إن المال يستطيع أن يحلل ويحرّم، وهو يتفوق على العلم والكفاءة وعلى كل فكرة يمكن أن يدعي فرد أنه مقتنع بها أو يدافع عنها. بل ويبرر العنف أحيانا  ليستمر مسيطراً.

وتجلى ذلك في شكل منظومة سياسية تكاد تقوم برمتها على هذا الأساس مستغلة الريع البترولي ووفرة مالية لم تعرفها البلاد منذ الاستقلال أنتجت من يعتبر نهب المال  العام ليس عيبا، وتقاضي أجور بلا عمل أمرا مقبولا، وعدم الالتزام بالقانون مبرّرا، والنجاح في الدراسة من غير تعلم ممكنا… وهكذا على أكثر من صعيد، إلى درجة أن أصبح مقياس النجاح حتى لدى أبسط العمال: عندما لا يشتغل ويتقاضى أجرا عاليا..

هذا الواقع الجديد، ينبغي أن يتم التحكم فيه قبل فوات الأوان، وينبغي إعادة الأمور إلى نصابها بالتدريج قبل أن يصبح المجتمع مستعدا لقبول كل السيناريوهات التي تخدم بعض أفراده وإن كان فيها تحطيم له، كما يحدث الآن في أكثر من بلد عربي: “انتصارات” شبه يومية لقوى أصبحت ترمز للانتقام من المنظومة السياسية القائمة وتستخدم أشكالا من العنف والإرهاب لم يسبق للمجتمعات العربية أن عرفتها.

نحن لسنا بمنأى عن هذا في ظل التحولات القيمية المضطربة التي تعرفها بلادنا، ومن ثم فإن تصحيح هذا الاضطراب ينبغي أن يتم ضمن رؤية مستقبلية واضحة ومحددة لإعادة تصحيح القيم بما يمكنها من مواكبة التطورات الحاصلة في المجتمع وفي العالم.

والبداية تكون من تفعيل ما بقي من عناصر حية لهذه القيم في مجتمعنا، إذ أننا لم نبلغ بعد درجة الانهيار التام، وإن بدا ذلك على مستوى القمة.

على مستوى القاعدة ولدى كثير من الشرائح الاجتماعية مازالت هناك مقاومة نشطة للتصدي الحاصل على صعيد انهيار القيم. هناك عائلات مازالت تدافع على رصيدها، وهناك أفراد مازالوا متمسكين بقناعاتهم الراسخة في سيادة قيم العمل والوفاء والإخلاص للوطن ونبذ الرضوخ لسلطان المال أو المنصب، وتأكيدهم باستمرار على  سلوك التضامن والتآخي واعتبار المادة وسيلة لا غاية في الحياة، بل هناك منظومات عائلية معزولة أحيانا ما زالت تحافظ على ذلك.

هذا الرصيد المتبقي، مهما كان ضئيلا، هو الذي ينبغي الانطلاق منه لإعادة تصحيح القيم ومنع المجتمع في السير نحو محطة الانكسار.

لقد عرفت بلادنا الكثير من محطات المد والجزر في هذا المجال، ونحن نعيش اليوم حالة من الانهيار الواضح في القيم على أكثر من صعيد، إلا أن ذلك لا يعني انعدام القدرة على إعادة الانطلاق من جديد لمواصلة إعادة بناء الدولة الوطنية التي حررها الآباء والأجداد وفق منظومة قيم متماسكة  ومعبرة عن حقيقة الجزائري العميقة، لا عن حقيقة أفراد لم نعد نشعر أنهم ينتمون إلى قيم هذا الشعب  الراسخة، بل تنتابنا شكوك أنهم في مهمة لتحطيم هذه القيم.

هوامش:

 * كل شيء يمكن أن يُباع ويُشتَرى بالمال: الذمم، الولاءات، العدالة، الشرف… بل إن المال يستطيع أن يحلل ويحرّم، وهو يتفوق على العلم والكفاءة وعلى كل فكرة يمكن أن يدعي فرد أنه مقتنع بها أو يدافع عنها. بل ويبرر العنف أحيانا ليستمر مسيطراً.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
14
  • سليمان

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
    كلامك يا استاذ صحيح مائة بالمائة ولا غبار عليه نحن نسير رويدا رويدا نحو الفوضى في كل المجالات والامر يزداد سواءا يوما بعد يوم ، السلطة مبررها واحد الحفاظ على الأمن والبقاء في السلطة باستعمال الريع البترولي / في الرياضة . التعليم ، السكن ، في كل شيء/ اما الشعب فيبحث الا عن المال بكل الطرق و الوسائل حلالا ام حراما قانونيا ام بالتحايل على القانون المهم نحن نسير بخطى ثابته نحو الفوضى عاجلا ام اجلا .

  • جزاااااحقةااائررررية

    الله يجيب الخير ويهدينا أجمعيييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييين

  • نبيل

    تابع..اللهم إلا إذا بدأ الإصلاح (وذلك أعده معجزة) من الفوق أي من رأس الهرم. إذا بدأ الإصلاح من هناك، فسيكون سهل وسريع وفعال.

  • نبيل

    تابع..عيش وحياة ألبسوها المادة بطريقة فضة فاضحة زادت شساعة الفرق بين من يملك ومن لا يملك، وجعلت النجاح في الحياة مرادف لمن يكسب الملايير، فانعكس ذلك بزيادة السباق للوصول إلى المادة بين الناس على حساب القيم بل وحتى فوق الجماجم. أصبح الكثير لا يهمهم أن يقال عنهم سراق أو مرتشين، أو محتالين أو مختلسين أو كذابين، المهم هو الظفر بالمادة بأي طريقة كانت.
    إصلاح المجتمع وإعادة الإعتبار للقيم التي تعيد له صلابته يتطلب وقتا طويلا. فما أُفسِد في عقدين أو ثلاث يحتاج لعدة عقود لكي يصلح، ..يتبع

  • نبيل

    القيم في مجتمعنا مثلها مثل الثورة كانت ضحية المتسلقين الذين تسلقوا بقدرة قادر من دركة "كابران" في جيش فافا إلى مرتبة حاكم في حكومة الجزائر يضرب "الطابلة بالبونية" بمستوى إبتدائي وهو يشعر بقوة الرتبة المسروقة تغطي قوة العقل والنباهة. القيم ضحية رداءة هؤلاء، الذين حكَّموا مسدساتهم في عقول العقلاء وركبت جماجمهم نخوة الحكم فضنوا أنهم يملكون الحكمة وحسن التدبير. لكن فاقد الشيئ لا يعطيه. صادروا إرادة الشعب، وليرغموه على الطاعة، أربكوه بضرب القيم في الصميم. زعزعوا كل ما آمن به، بتقديمهم له نماذج ...يتب

  • Baki

    الغريب فى هذا المجتمع انه قد اعجبته هذه الطريقة والكل يصفق لها الا من رحم رب اما اصحاب النفوذ فانهم لم يكتفوا بالمناصب والأموال التى اخذوها زورا وبهتان بل هم منهمكين فى تلطيخ كل المقومات المتبقية ولسوف تنتشر العدوة قيل ان نستفيق لا محالة الا ترون وتسمعون انهم قاموا بتمريغ كل ماهو نقى الأشخاص،القيم الى العادات كل ماهو محترم نصنع له افة وكل من هو نضيف يلطخ فاذا تحدثت عن الأمير عبد القادر قيل لك باع الجزائر واذا تحدثت عن الأمام ابن باديس قيل لك رجعى وانتغريست ممكن الرجوع الى النفس لاكن المجتمع اهم

  • حمورابي بوسعادة

    في الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة يقال"أخرج لربي عريان يكسيك"- يتعين علي الكاتب فعله أن يربط بين المعلومات التي ينقب عنها وسط هذا الركام الاعلامي الذي لا يراعي الا مصالح وسائله الاعلامية ومصالح البلدان التي ينتمي اليها خاصة لما يتداخل في القيام بمهامه بالاستقبارات " الاست...ارات " من أجل السبق الاعلامي ، يجمع كل شيء ويعيد ترتيبه بروية وفق منطوق ما تدلي به الاحداث والوقائع التي تترآي للناس، ليصل منها بعد ذلك الي تكوين رأي يخلع عن الحقيقة ما يحجبها من تضليل وتعتيم ومحاولات التمادي في قلب الحقائق .

  • الزهرة البرية

    فعلا أصبت فمكمن الداء هو انعدام الرقابة الذاتية لدى الأفراد أي إذا استطعت أن تفلت من رقابة المسؤول فافعل ما يحلو لك فقد أصبح المسؤول هو الإله المعبود ولا إلاه غيره إلا " إله الشكارة " الذي يستطيع شراء هذا المسؤول بما معه.
    للأسف كل من أراد تبرير أخطائه يقول : كل الناس تفعل هذا .. فليكن المجتمع غير صالح ..إبدأ الإصلاح من نفسك.. كن الحبة التي تنبت وتزهر فتعطر ما حولها وتنشر الحياة.

  • الغراب الأبيض

    "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"

    رفعت الأقلام الوجفت الصحف

  • دوادي

    شكرا لك استاذ الأمر أصبح جد مقلق و الكل بات يعبر عن قلقه قي شكل اشتياق للزمن الجمبل لكن كما تعلم أهل العلم هم للناس ادلاء لكنهم يكتفون بالفرجة و التعبير عن قلقهم و في احسن الأحوال الكتابة و التحليل و هذا غير مجدي في ظل غياب جهد و فعل منظم لتغيير الواقع و تداركه قبل الوصول إلى الحالة التي تحذرون منها .

  • بدون اسم

    المشكل أن الناس في المجتمع أصبحت سلوكاتهم و تصرفاتهم يطبعها "التقليد أو الإتباع" بمفهوم "قوم تبع" إذا أحسن الناس أحسنوا و إذا أفسدوا كانوا مثلهم في الفساد أو أكثر"...هي ذي الحقيقة المرة التي نعيشها في هذا المجتمع الذي فقد مبررات الوجود... و لعل أهم قيمة "هي الأخلاق"؟ و الأدهى و الأمر أنه أصبحنا نورث لغيرنا فسادنا و عبثنا و كل الصفات المشينة؟ لقد كان من الواجب أن نكون مثالا و قدوة للآخرين في احترام مواقيت العمل، و الانضباط و الفعالية في أداء الواجبات ؟ و إذا بنا أصبحنا سخرية للآخرين يتندرون بها؟

  • نبيل

    كل ما كتبته صحيح جدا لو طبق كل فرد منا تعاليم القران المنزل من سابع سموات ولو اربعين في المائة لكان حال المجتمع افضل بكثير مما هيا عليه يمكننا ان نوفق بين الداخل والخارج بشكل سلس وبدون اثارة خليا الدبابير علينا نحن لم نكن اذكياء في هاذا لحد الان

  • قادة

    في الجزائر لم تبقى قيم و لا اخلاق و همم.جزائر اليوم اصبحت غابة و فيها الغياة تبرر الوسيلة. لهذاتسالك في موضعه ماهي القيم التي ستحكمنا في المستقبل ونحن نعيش عصرالبقاء والمكانة والجاه والسلطان للاقبح اقوالا وللافسدافعالا واعمالا.الحقيقة مرةلكن يجب ان تقال حتى نفرق بين القيل والقال وكثرة السؤال بان مستقبلنا الجميل و السعيدالذي نتمناه اصبح يرى وكانه غيث من الاحلام ان هي بقيت الاحوال على هذاالمنوال.مستقبلنا لن يكون عليه كلام يدفع بالانسان للامل الا بتغيير احوال اليوم واحسان تربيةالنشأ على قيم الاسلام

  • بدون اسم

    يا استاذنا الفاضل يحترم الشعب القيم و منها اهميه العمل عندما تحترم الدوله العمل بالله عليك من من المسؤولين يستحق منصبه ؟ من من المسؤولين يوفي اجره ؟ من من المسؤولين لا يستغل سلطاته ؟ اليوم العساس في باب البلديه اصبح ينظر لنفسه كالوزير و لم لا فهو من ينبش ملفات السكن و يوفر المعلومه التي لا تحل طلاسمها تصريحات تبون و زوخ !! يا استاذنا الفاضل السمكه يصيبها العفن من الرأس فمن اراد ان يحل مشاكل المجتمع الجزائري فليعالج الرأس فبسببه ضاعت كل القيم بل حتى ضيعنا هويتنا و ديننا !!