-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلى أهل البلاء

سلطان بركاني
  • 3234
  • 0
إلى أهل البلاء

الحياة الدنيا دار نوائب ومصائب وابتلاءات لا تنقضي؛ فما من نعمة إلا وتعقبها نقمة، وما من فرحة إلا وتعقبها قرحة. إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا أضحكت يوما أحزنت يوما. ما في هذه الدّنيا عبد يسعى إلا وقد حاقت به مصيبة من المصائب.. ما من دار إلا وكانت فيها باكية، وما من خدّ إلا وسالت عليها دمعة.. بل إنّ في بعض بلاد هذه الدّنيا من لا تكاد الأحزان تبرح قلوبهم ولا تكاد الدّموع تفارق مُقلهم، في فلسطين والعراق وسوريا وبورما، وفي بلاد كثيرة يُسام أهلها ألوان العذاب ويُذاقون أليم العقاب.

في بعض المرويات أنّ ذا القرنين، الرّجل الصّالح المذكور في القرآن، لمّا بلغ مشارق الأرض ومغاربها وعاد من رحلته وبلغ أرض بابل في العراق، أدركه المرض وأيقن أنّه ميّت لا محالة؛ كتب إلى أمّه رسالة يعزّيها بها قال فيها: “أمّاه! إذا بلغك كتابي هذا فاصنعي طعاما، واجمعي من قدرت عليه من النّاس، ولا يأكلْ طعامَك من أصيب بمصيبة، وإنّي لأرجو أن يكون الذي أذهب إليه خيرا ممّا أنا فيه”، فلمّا بلغها كتابه صنعت طعاما كثيرا وجمعت النّاس وقالت: لا يأكل من هذا الطّعام من أصيب بمصيبة. فلم يتقدّم أحد من المدعوين إلى ذلك الطّعام. ففهمتْ ما أراد ابنها فقالت: بنيّ من مبلّغك عنّي أنّك وعظتني فاتّعظت، وعزّيتني فتعزّيت، فعليك السّلام بنيّ.

إنّها الحياة الدنيا.. دار المصائب والمصاعب، والأحزان والهموم والنّوائب. ما خلصت لأحد أبدا. لا يعزّي العبدَ المؤمن فيها إلا إيمانه بقضاء الله وقدره، وإيمانه بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلمُه أنّ من رحمة الله -جلّ وعلا- بعباده المؤمنين أنْ جعل مصائب الدّنيا وهمومها أنهارا تطهّرهم من الذّنوب وتمحو عنهم الأوزار، وتخرج حبّ الدّنيا والتعلّقَ بها من قلوبهم. يقول نبيّ الهدى صلّى الله عليه وسلّم: “ما يصيب المؤمنَ نصبٌ ولا وصب، ولا همّ ولا حزن، ولا أذى ولا غمّ حتى الشّوكة يشاكها إلا كفّر الله بها خطاياه”، ويقول صلوات ربي وسلامه عليه: “ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله تعالى ما عليه خطيئة”، ولأجل هذا الثّواب الجزيل كانت المصائب عند عباد الله الصّالحين مغانم يحمدون الله عليها؛ فهذا الصحابيّ عبد الله بن عباس –رضي الله عنه- توفيت ابنة له وبلغه الخبر وهو بين مكّة والمدينة، فنزل عن راحلته وصلّى ركعتين، ورفع يديه وقال: “الحمد لله، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، عورة سترها الله، ومؤونة كفاها الله، وأجر ساقه الله”. ثمّ ركب ومضى لحاله، وهذا التابعيّ عبد الله بن عامر رحمه الله، مات له سبعة من الأولاد في يوم واحد، فما كان منه إلا أن قال: “الحمد لله، إنّي مسلم مسلّم”.

بل إنّ من عباد الله الصّالحين من كان يتمنّى أن يبتليه الله بقبض أحبّ أبنائه إليه احتسابا للأجر؛ فهذا التّابعي إبراهيم الحربيّ عليه رحمة الله، كان له ولد من أنجب الأولاد، حفظ القرآن وأخذ حظا وافرا من الحديث والفقه، ولمّا بلغ الحادية عشر من عمره توفّاه الله، فجاءه رجل يعزّيه فيه، فقال إبراهيم: “الحمد لله. لقد كنت على حبّي له أريد موته”!، فقال له الرّجل: يا أبا إسحاق! أنت عالم الدّنيا، تقول هذا في صبيّ حفظ القرآن ولقّنته الحديث والفقه!. قال: “نعم، أوَ يخفى عليك أجر تقديمه”.

فيا أيها المبتلى.. يا من ابتليت بفقد قريب أو حميم. يا من ابتليت بفقد ولد أو والد.. أيها المهموم.. أيها المحزون.. احمد الله على ما أعطى وعلى ما منع، واصبر واحتسب تجدِ الأجر العظيم عند الله جلّ وعلا. اقرأ معي عزاء نبيّ الهدى –صلّى الله عليه وسلّم- لك، اقرأه يا من ابتليت بفقد ولدك أو والدك.. اقرأه يا من ابتليت بمرض أو همّ.. اقرأه يا من ابتليت بالفقر وقلّة ذات اليد؛ يقول حبيبُك عليه الصّلاة والسّلام: “تُنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصّلاة والصيام والحجّ فيوفّون أجورهم بالموازين، ثمّ يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ويصبّ عليهم الأجر صبا بغير حساب، وذلك مصداق قوله تعالى ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ))”.. فيا الله! يثاب القانتون والصّائمون والمتصدّقون بالموازين، أمّا أهل البلاء فلا ينصب لهم الميزان، وإنّما يصبّ عليهم الأجر صبا.

أخي المؤمن.. أيها المبتلى.. إنّ الجزع لا يردّ المصيبة، وإنّ السّخط لا يحيي ميتا ولا يردّ غائبا. يقضي الله قضاءه وقضاؤه ماضٍ لا رادّ له، فمن رضي عن قضائه رضي عنه، ومن سخط سخط عليه.

إنّ أعظم مصيبة هي مصيبة الدين؛ مصيبة أن يتهاون المؤمن في الصّلاة أو يعقّ والديه، أو تتلاعب المسلمة بحجابها، أو يأكل العبد المؤمن الحرام وينظر إلى الحرام ويقول الحرام ويسمع الحرام، أمّا مصائب الدّنيا فمهما عظمت فهي هينة. فمن سلم دينه فليحمد الله وليرض بقضائه.. يقول القاضي شريح عليه رحمة الله: “إنّي لأصاب بمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرّات: أحمده على أن لم يجعلها في ديني فإنّ لكلّ شيء عوضا إلا الدّين، وأحمده إذ لم تكن أعظم ممّا هي عليه، وأحمده إذ رزقني الصّبر عليها، وأحمده أن وفّقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثّواب”.

لا ينبغي أبدا أن تنسى –أخي المؤمن- أنّ عُمْر هذه الدنيا قصيرٌ وكنزَها حقيرٌ، والآخرة خيرٌ وأبقى؛ فمن أُصيب هنا كُوفِئ هناك، ومن تعب هنا ارتاح هناك. الحياة الدنيا مِلك لله يمنح منها ما شاء لمن شاء، ويأخذ منها ما شاء ممّن شاء.

إنّما الدّنيا هبات وعوارٍ مستردّة * شدّة بعد رخاء ورخاء بعد شدّة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!