-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلى متى تضيع الأيام الغالية هدرًا؟!

سلطان بركاني
  • 853
  • 0
إلى متى تضيع الأيام الغالية هدرًا؟!

في الأيام الأولى من شهر رمضان، ومن حين إلى آخر، يتلو الأئمّة على مسامع المصلّين في بعض الصّلوات الجهريّة، آيات الصّيام من سورة البقرة، التي تبتدئ بقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَات)).. آيات تذكّر بنعمة الله في فرض الصيام على هذه الأمّة كما فُرض على الأمم السّابقة، وتنبّه إلى أهمّ غاية للصيام وهي تحصيل التقوى والخوف من الله- سبحانه- واستشعار رقابته واطّلاعه، وتجلّي فضل الله في إسقاط الصّيام عن المرضى والمسافرين وكبار السنّ العاجزين.. وبين هذا وذاك تنبّه إلى حقيقة أنّ ما فُرض صيامه لا يتجاوز أياما معدودات بين أيام العام.

أيام رمضان في حساب ساعاتها، هي مثل أيام سائر العام، لكنّ المسلمين جميعا يحسّون بأنّها تمضي في سرعة عجيبة تقرع القلوب وتهزّ الأرواح، فما أن يحلّ أوّل يوم من رمضان حتّى تتوالى أيامه كحبّات عقد انقطع خيطه، فلا يشعر الصّائمون إلا وهم يستقبلون العشر الثانية ثمّ الأخيرة، ثمّ إذا بهم يستعدّون لوداع الضّيف العزيز.. ولعلّ المولى -سبحانه- قذف بهذا الإحساس في قلوب عباده، ليعتبروا بسرعة انقضاء الأيام الغالية من العمر، والعمر يفترض أن تكون أيامه كلّها غالية، لأنّ كلّ يوم يمضي منها، يرحل ولا يعود؛ يرحل محمّلا بأعمال العبد التي تدوّن في صحيفتيه، لتعرض على خالقه ومولاه، ولا يمكنه تصحيح ما حواه وحمله إلا بالتّوبة الصّادقة.

العمر مهما امتدّ لعدّة عقود، فإنّه في النّهاية أيام معدودة، ومَن عمّر في هذه الدّنيا 83 سنة، يكون قد عاش ألفي ساعة توالت وتتابعت بسرعة، كما تتتابع ساعات اليوم من رمضان، وإذا ما سئل في آخر أيامه عن تقديره لهذا العمر الذي نراه طويلا، يجيب بأنّه مضى كما تمضي 83 ساعة! وكيف لا يحسّ بذلك، وقد كان الرّجل في الأمم السّابقة يعيش مئات السّنين، وحين يأتيه ملك الموت في آخر لحظات عمره، يشعر بأنّ العمر لم يكن سوى أيام معدودات! وقد روي –بإسناد فيه مقال- أنّ نبيّ الله نوح –عليه السّلام- الذي عاش بين قومه في الدّعوة فقط قرنا إلا خمسين عاما، لمّا سئل عن عمره في آخر لحظاته، قال: “مثل رجل بنى له بيتا له بابان، فدخل من الأوّل وخرج من الآخر”.

المخيف ليس أنّ العمر يمضي سريعا، ولكن المخيف أنّ العبد سيقف بين يدي الله ليُحاسَب عن عمره بأيامه ولياليه ولحظاته: يقول الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟”

ومادام الأمر كذلك، فحريّ بكلّ عبد مؤمن أن يعرف لعمره قيمته وقدره، فلا يضيّع يوما ولا ساعة منه في سعي لا يعود عليه بالنّفع في دينه ودنياه، ولأنّ الآخرة هي الغاية وهي المآب، فينبغي للعبد أن يحتسب كلّ عمل ولو كان في أصله لأجل الدّنيا، أن يحتسبه عند الله ليجد ثوابه عند مولاه؛ فيحتسب عمله وسعيه لكسب رزقه ويحتسب بناء بيته وتأثيثه، بل يحتسب اللّقمة يضعها في فمه أو فم زوجته أو أحد أبنائه، ويحتسب شهوته وكلّ حركة من حركاته لله: ((قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين)) (الأنعام: 162).. ويجتهد في مقابل هذا في حفظ ساعات عمره من أن ينفقها في غير ما يقيم دنياه ويعمر آخرته، ومن باب أولى أن ينفقها في ما يفسد دنياه وآخرته! وقد كان الصّالحون من عباد الله يَعدّون إضاعة الأوقات في الغفلات من علامات مقت الله لعبده، فكان قائلهم يقول: “علامة المقت إضاعة الوقت”، بل كانوا يرون أنّ من العجز والغبن أن يقعد العبد عن زيادة عمله يوما بعد يوم، فيقول قائلهم: “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي”، ويقول آخر: “من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شرًّا من أمسه فهو ملعون”.

وإذا كان من علامة المقت إضاعة الوقت، فكيف إذا كان الوقت هو رمضان؟! كيف لو كانت السّاعات التي تهدر في الغفلة والنّوم الزّائد على الحاجة وأشواط الدومينو المتتالية وألعاب الهاتف، هي ساعات رمضان الغالية؟ إنّه لأمر مؤسف حقا أن ترى كثيرا من الصّائمين يصرّون على برامج ثابتة يحرقون بها أيام رمضان كلّ عام، تتلخّص في رباعية “سحور-شخير-فطور-سهر”! وهؤلاء نافسوا من ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، فتفوّقوا عليهم!

رمضان شهر الرّحمة، لكنّ سرعته لا ترحم، وحريّ بالعبد المؤمن أن يستثمر ساعاته في إصلاح نفسه وتقويم اعوجاجه وتعديل برنامج حياته، وكلّ رمضان يضيع من حياته سدى، هو قسوة تُزاد إلى قلبه وغفلة تضاف إلى روحه، ومع توالي الأعوام وضياع رمضان في كلّ عام، ربّما يموت القلب، وينسى العبد أنّ هناك توبة واستقامة واستعدادا للموت، ويظلّ مصرّا على حاله من سيئ إلى أسوأ حتى يلقى الله، وقد رأينا كهولا وحتى شيوخا في أرذل العمر لا يرعون لأيام رمضان قدرا ولا حقّها، الواحد منهم لا يتورّع عن إطلاق العنان لبصره ولسانه، بل قد رأينا شيوخا ينافسون بعض الشّباب في الغفلة والتشبّب بالنّساء في أيام وليالي رمضان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. هذا كلّه من حصاد التّسويف وإضاعة الأعمار، نسأل الله السّلامة والعافية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!