-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

اتهاماتٌ خطيرة للمدرسة الجزائرية

بقلم: عيسى جرادي
  • 1703
  • 3
اتهاماتٌ خطيرة للمدرسة الجزائرية

المدرسة ابنة بيئتها، فهي حاضنتها التي تتأثر بها وتؤثر فيها، تعطيها وتأخذ منها، تتفاعل معها سلبا وإيجابا، وبها تبرر وجودها، ومنها تستمد أسباب بقائها ونمائها ماديا ومعنويا، وهذا حال كل مدرسة في هذا العالم، إذ لا وجود لمدرسة منقطعة عن وسطها إلا في الأديرة، أو في بعض الرؤوس التي تعتزل الحياة من حولها.

في قلب المأساة الوطنية التي اختبرتها الجزائر في التسعينيات، تأثرت المدرسة بما جرى، لاشك في هذا، لكنها لم تكن يوما طرفا في تلك الأحداث، وبأي وجه من الوجوه، كنا في المؤسسات نأسى ونحزن لما يحدث، ويتسرب إلينا هاجس الخوف من مستقبل يكتنفه الغموض، لكن لا أحد دعا إلى توظيف المدرسة في النزاع، كان الأمر في غاية الوضوح، المدرسة وجدت من أجل الحياة، وهي للجميع وبهم، ويجب أن تبقى وفية لهذه الغاية، فلا مجال لإقحام ملايين الأطفال ومؤطريهم في هذه المواجهة، ولا مبرر لفعل ذلك أصلا، لا سياسيا أو أخلاقيا.

بهذه الصورة الإنسانية والوطنية التي عبرت بها المدرسة عن نفسها، لم تكن لتوافق رغبة “البعض” في دفعها داخل  أتون المأساة، وحملها على الانخراط فيها بأي شكل متاح، لا باعتبارها أحد مفاتيح الحل الناعمة، بل بوصفها المتهم الذي يجب أن يدان.

وإذا كانت وزيرة التربية الوطنية -المحسوبة على التيار التغريبي- تردّ على من سألها إن كانت المدرسة الجزائرية قد أنجبت الإرهاب؟ بقولها: (المدرسة لم تنجب قطّ إرهابيين خلال العشرية السوداء، بل إنها أدّت دورا مهما، إلى جانب الجيش، لضمان الوحدة الوطنية رغم التهديدات التي طالتها، والتي بلغت حد قتل الأساتذة والتلاميذ)، وهي بهذا المعنى تبرّئها من التهمة، وتضعها في منأى عن أي مزايدة سلبية، فإن طرفا مقابلا، ومن منظور مختلف تماما، يصرُّ على تحميل هذه المدرسة  أوزارا كانت بريئة منها.

وفي أغلب ما كُتب عن المدرسة في التسعينيات من منظور الاتهام، كانت الإدانة تقوم على تهمتين:

الأولى: باعتبار المدرسة محضنا للأصولية، وللأيديولوجية التي أنتجت “الإرهاب”، وللبعثية الوافدة من الشرق،  وبالتبعية تأتي النتيجة متسقة مع التهمة، فالمدرسة التي فاقمت المأساة، يجب أن تدان وتوقَّع عليها إجراءاتٌ تأديبية، تطال أشخاصها ومنظومتها الفكرية والمعرفية، تلك كانت اتهامات خطرة وقاسية، وتفتقر إلى أدنى دليل، ولو في نطاق إثبات شبهة بسيطة.

الآخرة: فشلها  في الارتقاء بالتكوين المعرفي للتلاميذ، ليتسنَّى الاستدلال على هذا الفشل من خلال النتائج المدرسية الهزيلة، كمن يدّعي أن (نسبة الإخفاقات المدرسية بدأت في التزايد بموازاة مع تصاعد الأصولية منذ بداية الثمانينيات)، وإن التسرب المدرسي الذي بلغ أرقاما قياسيا -بتقدير هؤلاء- حث البطالين المعرَّبين على (أن يعود أغلبهم إلى المساجد، وينضمُّوا إلى الناقمين على النظام، ويقوموا بتعزيز الأصولية).

بين أيدينا ما يكفي من هذه الاتهامات للرد عليها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما نُشر في شكل رسالة مجهولة الهوية، منسوبة لمواطنين ومواطنات من العاصمة، ورد فيها: (هكذا تحوّلت المدرسة إلى مكان لنشر الأفكار الظلامية، ومكان للخضوع إلى الحقائق الأيديولوجية وشبه الدينية، إذ يسقط الفكر والمعرفة تحت طائلة كل الممنوعات. وتحت ضغط هياكل اجتماعية واقتصادية بالية والنمو الديموغرافي المتزايد والمفاهيم الشعبوية العميقة، لم تصمد المدرسة أمام هجوم الأصوليين، لذا أصبحت قاعدة أساسية للتكوين الأيديولوجي للأصولية والإرهاب والملجأ الذي يبرز فيه معلمون وتلاميذ متعصِّبون لا يتوانون عن تهديم وإحراق المؤسسات المدرسية التي تمثل -من المفروض- معابد لا يمكن اقتحامُها، ويجرؤون على اغتيال معلمين ومديري مدارس، إذا كانوا لا يتصرّفون مثل المناضلين المتحمسين للمشروع الاستبدادي والقر- وسطي الإسلاموي السياسي).

هكذا تُساق الاتهامات جزافا وبتعميم لا استثناء فيه، فكل من في المدرسة أصوليٌّ وبعثي، والمدرسة التي تكفلت ببناء معالم شخصية جزائرية، تتحول إلى ما يشبه الوكر الذي يجتمع فيه اللصوص والقتلة، الذين يتلقون التعليمات والتوجيهات لتصفية خصومهم، والتلميذ الذي يحمل محفظته ويتوجه إلى هذه المدرسة، قد يصبح في أيِّ لحظة مشروع عنف، بدل أن يكتسب معارف وأسس تربية أخلاقية تعينه على ترتيب وجوده في المجتمع!

هذا الحكم، مع ما يكتنفه من مغالطات بشعة وصياغة لفظية ركيكة، يصل إلى حد اقتراح مبادرة فحواها (ترقية مدرسة عصرية وعقلانية وعلمية وإنسانية، ولا يمكن إنشاء مثل هذه المدرسة، إلا إذا أحبِط المشروعُ الأصولي والاستبدادي وقُضي عليه نهائيا على الصعيدين السياسي والأيديولوجي)، ويتسنى هذا عمليا -بتقدير من حاز دور وكيل مجتمعي  بغير توكيل ـ بـ(تحرير الأجهزة الإدارية والتقنية والبيداغوجية للمنظومة التربوية من قبضة الأصولية والحزب الوحيد الذي استولى عليها تحت ظل المادة 120).

فهل كان وجه المدرسة بهذه البشاعة والوحشية؟ وما هو الغرض وراء هذا التكالب على مدرسةٍ لا يمكن إنكار دورها في انتشال الجزائريين من وحل الجهل، ومنحهم فرصة الإعلان عن طاقاتهم، وهي التي أمدت الاقتصاد الوطني والمؤسسات الإدارية بآلاف الكفاءات، من دون أن يرتبط ذلك باللغة التي درسوا بها؟

هكذا تُساق الاتهامات جزافا وبتعميم لا استثناء فيه، فكل من في المدرسة أصوليٌّ وبعثي، والمدرسة التي تكفلت ببناء معالم شخصية جزائرية، تتحول إلى ما يشبه الوكر الذي يجتمع فيه اللصوص والقتلة، الذين يتلقون التعليمات والتوجيهات لتصفية خصومهم، والتلميذ الذي يحمل محفظته ويتوجه إلى هذه المدرسة، قد يصبح في أيِّ لحظة مشروع عنف، بدل أن يكتسب معارف وأسس تربية أخلاقية تعينه على ترتيب وجوده في المجتمع!

غريبٌ هذا الفكر الإقصائي والاستئصالي، وأغرب منه أن يتحوَّل إلى ناطق رسمي باسم مواطنين ومواطنات جزائريات لا نعلم عنهم شيئا، ثم يصار إلى تجريد هذه المدرسة من أيِّ ميزة إيجابية، فما الغرض من كل هذا؟

تقديري أن الغرض واضح، وهو محاولة الاستيلاء على هذه المدرسة من أعلى، بفرض تشريعات لائكية عليها، والتحكم في توجهها، وفرض ما يناقض كونها مدرسة في بيئة جزائرية، يميِّزها الإسلام واللغة العربية، لشعب له هويته وجذوره التي لا يمكن إنكارُها أو تزييفها، أو تحويلها إلى أداة للمزايدة على الوحدة الوطنية.

للمقال مراجع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • نحن هنا

    يخطء من يظن أن كذبه أوتزييفه لواقع ما أن يتحول في يوم ما الى حقيقة حقيقية . من انقلب على ارادة السعب؟ من ملأ السجون بالابرياء؟ من أوقد نار الحرب؟ انها اللعنة التي تظل تطارد فاعلها الى يوم الدين إن من جنى على الجزاءر والجزاءرين هم أذناب فرنسا وعملاؤها ولا أحد غيرهم واقرأوا قول الله تعالى ان سءتم"هانتم هولاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيافمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلا..."

  • قل الحق

    يبقى السؤال الجوهري، ما الذي انتج عصابات السيوف و المخدرات في المجتمع، أليس البعد عن الدين، يكفينا عبرة أن كتاتيب القرأن أنشأت جيلا من الرجال حرر البلاد و بناها.

  • sami

    بعد التحية، لم تذكر المراجع نأمل ذكر هذه المراجغ التي اعتمدتها في مقالك هذا وشكرا