الرأي

احتلالٌ عثماني أم نصرةٌ دينية؟

ناصر حمدادوش
  • 3697
  • 21
ح.م

يعرّف المؤرّخون طبيعة الدولة العثمانية بأنّها دولةٌ عسكريةٌ جهادية وفق السّياق التاريخي لنشأتها، وهي التي تأسّست في خضمِّ الرعب من المغول وجحافل جنكيز خان من شمال الصّين إلى تركستان في حدود سنة 1220م، وقد تأسّست هذه الدولة بواسطة قبيلة الكَايِي، والتي تتكوّن من 400 خيمة وبتعداد 4000 نسمة، على يد عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه، الذي إليه نُسبت الدولة العثمانية.

 وقد تطوّرت الدولة العثمانية من إمارةٍ سنة 1299م إلى سلطنةٍ في عهد الخليفة العباسي، والذي يُعدُّ تتويجًا شرعيًّا لواقع العثمانيين، مرورًا بالسّلطان محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية (إسطنبول حاليًّا) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية سنة 1453م، والذي يُسمّى عهدُه في العُرف التاريخي: بالعصر الحديث، إلى السّلطان سليم الأول (1517م- 1520م) الذي عُرِف عهده بفتح الدول العربية، والانتقال من السّلطنة إلى الخلافة، وهو ما يعني أنّ عمر الخلافة العثمانية استمرّ أكثر من 06 قرون، من سنة 1299م كإمارةٍ إلى سنة 1924م كخلافة، ولا يطول عمر دولةٍ إلا بحضارةٍ وعدل. وهو ما جعل الدكتور “محمد حرب” يقول: “العثمانيون مساحةٌ مباركةٌ من زمن المسلمين، وجزءٌ رحبٌ في حضارة البشر، اتّسموا بالسُّمو في تاريخ العالم، جاهدوا واجتهدوا، أصابوا كثيرًا ولهم أخطاؤهم، لكنّهم أضافوا للإنسانية فخرًا وللمسلمين عزّة، فلِمَ كلُّ هذه المعاداة للعثمانيين في بلاد المسلمين؟”. ولا تزال قضية التحاق الجزائر بالخلافة العثمانية سنة 1516م والتي امتدّت إلى سنة 1830م تثير جدلاً حول سيادتها ومدى استقلاليتها في ذلك العهد، ومدى انعكاس ذلك على الوجود المستقلّ للجزائر كدولةٍ حديثة. ومن يقرأ ما يكتبه أصحاب سَرْدية “الاحتلال العثماني للجزائر” يُخيّل إليه أنّ جيوش الأتراك قد غزَت الدولة الجزائرية القائمة الموحَّدة، واحتلّت عاصمتها: مدينة الجزائر، ولاقَت مقاومةً شّعبية ضدّ هؤلاء “الغزاةِ”، وفرَضت حاكمًا عليها كما يفعل المحتلّون، مع أنّ الأمر ليس كذلك على الاطلاق. يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله وهو يردّ على المؤرّخ الفرنسي “أندري جوليان” في كتابه (تاريخ الجزائر المعاصر) والادّعاء بأنّ الحكم العثماني “احتلالٌ للجزائر”، ونظرية أنّ “الجزائريين خُلقوا للاستعمار”، فيقول: “هناك سببان واضحان لهذه النظرية، الأول: أنّها تحاول تبرير الاستعمار الفرنسي، وأنّه ضمن سلسلة من الاستعمارات مثل الاحتلال العربي والاحتلال التركي، والثاني: أنّها كانت تحاول فصل الجزائريين عن حضارتهم العربية والإسلامية”. الوجود العثماني بالجزائر كان في سياقٍ تاريخي في إطار الصّراع الحضاري بين القوّة الإسلامية العالمية وهي الخلافة العثمانية في ذلك الوقت وبين القوّة المسيحية العالمية وهي الإمبراطورية الإسبانية آنذاك، لأنّ العلاقات الدّينية الإسلامية مع العثمانيين كانت أقوى من العلاقات الجغرافية أو السّياسية، وأنّ هذا الوجود العثماني كان في سياق طلب الجزائريين للنّجدة من أجل تخليصهم من هذا الاحتلال الصّليبي، الذي كان يلاحق العرب والمسلمين في شمال إفريقيا بعد سقوط دولة الإسلام والمسلمين في الأندلس سنة 1492م، وإنهاء الوجود الإسلامي في إسبانيا بعدما أسّس فيها المسلمون أعظم حضارةٍ إسلامية وإنسانية على مرّ تاريخها. سقوط الأندلس فتح شهية الإسبان لاحتلال شمال إفريقيا وخاصّة السّواحل الجزائرية بذلك النَّفَس الصليبي، فكانت الخشية حقيقيةً من تكرار مآسي الأندلس بالمغرب الإسلامي، فكانت سببًا مباشِرًا في الوجود العثماني بالجزائر.

يقول مبارك الميلي: “كان سقوط غرناطة في يد الإسبان يوم 02 جانفي 1492م بدْء مرحلةٍ جديدة من برنامج التوسّع الإسباني”، ويقول: “كانت محاولات وغزوات الإسبان ضدّ الجزائر من بين الأسباب المباشِرة التي مهّدت لاستقرار الحكم التركي بالجزائر..”. ويقول، وهو يؤكّد بأنّ الوجود العثماني كان إراديًّا من الجزائريين في إطار الصّراع الصّليبي المسيحي: “لأنّ الجزائريين في مقاوماتهم العنيفة للإسبان فضّلوا الاستعانة بالأتراك لسدّ الطريق أمام التسرّب الإسباني.” (تاريخ الجزائر، ج 3، ص 31). وقد تعرّضت الجزائر فعلاً إلى ذلك التهديد الوجودي، فيقول مولود قاسم نايت بلقاسم: “.. في 23 أكتوبر 1505م احتلت إسبانيا المرسى الكبير عندنا، وفي 18 ماي 1509م احتلت وهران وأرزيو، وعلى امتداد سنة 1510م احتلت مستغانم وتنس ودلّس وشرشال والجزائر وبجاية..”، ثم يقول بعد ذلك الامتداد الصّليبي لإسبانيا، والذي وصل إلى جميع سواحل تونس وُصولاً إلى طرابلس، والذي كان ينوي أبعد من ذلك: “ولولا وجود الخلافة العثمانية في أوجّ قوّتها، وخاصّة وقد كان على رأسها ذانك الصّنديدان: سليم الأول وابنُه سليمان القانوني لكان الأمر غير ذلك في الشرق العربي والإسلامي عمومًا..”. وفي جوّ سلسلة تلك المآسي وخاصّة من أجل إنقاذ المسلمين الفارّين بدينهم من جحيم محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس ظهرَ الأخوان العثمانيان اللذان استقرُّا بجزيرة جربة بتونس، التي يقول عنها مبارك الميلي “وفي تونس استطاع عرُّوج وخير الدّين أن يتعرّفًا على مظهرٍ من المظاهر الفاجعة التي خلّفها ضياع الأندلس..” (تاريخ الجزائر القديم والحديث، ج 3، ص 34). وقد قامَا بنقل حوالي 70 ألف مسلم أندلسي في أسطول مؤلّف من 36 سفينة، وتمّ تأمينهم في الجزائر وتوطينهم بها، ممّا أكسب عرُّوج شهرةً ومحبّةً من سكان شمال إفريقيا لدوره الأخوي والبطولي حتى لُقّب: (بابا عروج)، وهو ما جعل أغلبية الجزائريين في ذلك الوقت ينظرون إليه بمنظار المُدافع عن الدّين والمجاهد في سبيل الله. وقد قال شاعرُنا الفحل مفدي زكريا في الإلياذة، وهو يتحدّث عن الإسبان ودور الجهاد البحري للأخوين بابا عروج وخير الدّين بربروس في مواجهة القرصنة الصّليبية:

ولعْلَعَ في بربروس ندَاهَا *** فثارَ وأقسم ألاّ يعود

وللدّين خيرٌ يصون حِمَاه *** وأسطولنا في البحار يسود

قراصنة البحر عاثوا فسادًا *** فأدّب ليثُ البحار القرود.

ويقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: “ولولا أن قيّض الله لنجدة المسلمين ونصرة الإسلام القائدَ التركي البحري العظيم بابا عروج وأخاه وقريعه القائد خير الدّين لتمّ في شمال إفريقيا ما تمّ في الأندلس من استعبادٍ للمسلمين وإكراههم على التنصُّر”، ويقول أيضًا: “كانت نجدة القائدين لمدينة الجزائر تلبية لاستغاثة إسلامية بهما من شيخ تلك المدينة إذ ذاك سالم التومي، ولقي القائدان من رجال الجزائر ما يريدان من تأييد وإعانة وطاعة وثبات وبطولة..”، ويقول: “وإذا كان الجزائريون قد أسندوا إليهما الإمارة عليهم، فإنّما ذلك للمصلحة العامّة” (آثار الإبراهيمي، ج 5، ص 111، 113). وعن هذه الحقيقة التاريخية بأنّ الوجود العثماني لم يكن احتلالاً بل كان طلبًا دينيًّا أخويًّا للنّصرة والحماية والتحرير من الاحتلال المسيحي الصّليبي الإسباني يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله: “ومن الثابت تاريخيًّا أنّ الجزائريين أنفسهم من طلبوا التحالف مع الخلافة الإسلامية أوائل القرن السّادس عشر، وكان ذلك الطلب يستهدف التعاون مع الخلافة من أجل طرد الغزاة الإسبان والبرتغاليين، وهكذا فإنّ نزول الأسطول العثماني مياه الجزائر بناءً على رغبة الجزائريين أنفسهم، لم يكن للاستعمار، ولكن لإنجاد جزءٍ من العالم الإسلامي كان مهدَّدًا بالخطر”. (أبحاثٌ وآراء، ص 62). وبذلك شكّلت الجزائر طيلة العهد العثماني قاعدةً متقدّمةً للجهاد ضدّ القوى المسيحية بالنّسبة للدولة العثمانية، وبديلاً قويًّا وردًّا حقيقيًّا على سقوط الأندلس.

يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله وهو يردّ على المؤرّخ الفرنسي “أندري جوليان” في كتابه (تاريخ الجزائر المعاصر) والادّعاء بأنّ الحكم العثماني “احتلالٌ للجزائر”، ونظرية أنّ “الجزائريين خُلقوا للاستعمار”، فيقول: “هناك سببان واضحان لهذه النظرية، الأول: أنّها تحاول تبرير الاستعمار الفرنسي، وأنّه ضمن سلسلة من الاستعمارات مثل الاحتلال العربي والاحتلال التركي، والثاني: أنّها كانت تحاول فصل الجزائريين عن حضارتهم العربية والإسلامية”.

تصويب واعتذار

في مقال “السّياق التاريخي للوجود العثماني بالجزائر” للأستاذ ناصر حمدادوش، ورد خطأٌ غير مقصود في العبارة التالية “هزم عرّوج الإسبان، وقتل حاكمهم التومي، وأعلن نفسه سلطانا عليها بمبايعة أهلها وأعيانها وعلمائها”، والصواب هو “هزَم عروجُ الإسبان، وقتلَ حاكمَها التّومي، وأعلن نفسَه سلطانًا عليها بمبايعة أهلِها وأعيانِها وعلمائِها”، أي أنّ سالم التومي هو حاكمُ الجزائر وليس حاكمَ الإسبان، فمعذرة للكاتب والقرّاء على هذا الخطأ غير المقصود.

مقالات ذات صلة