الرأي

“الأرسيدي” يتقدّم نحو الخلف!

كنّا نظنّ أن الأحزاب الحديثة قد تجاوزت الخطاب المُشبع بالإيديولوجيات العقيمة، لأنّ حاجيات المجتمعات في العالم الثالث أضحت دقيقة الأولويات في طريقها نحو التغيير والانتقال الإصلاحي، لكنّ خرجات “التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية” مؤخرا عادت بالحزب إلى مربّع الصفر، ليُثبت أنه لم يتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام إلاّ ليعود أدراجه سريعًا نحو الخلف!
قبل أسابيع، اعتقد البعض أن إثارة “الأرسيدي” لقضية “المساواة في الميراث” كما سماها، مجرّد كلام عابر اقتنصته وسائلُ الإعلام، لتصنع منه زوبعة في فنجان، لكن حديث الرئيس محمد بلعباس بإسهاب هذه المرة عن “الدين والحداثة في الجزائر”، يؤكد أنّ النقاش موجّه من قيادة الحزب، ويهدف إلى تمرير رسائل محدّدة نحو الداخل حتى لو حال السيّاق الاجتماعي دون التمكين لها، ونحو جهات في الخارج من رعاة “القيم الكونيّة”.
لماذا خلط الأوراق بسجالات فرعيّة على الأقل في هذا المنظور الزمني، في وقت صارت أركان الأزمة المستعصية لبلداننا واضحة لدى الجميع، ويجب أن تُصوّب كل الجهود والأفكار إلى تفكيكها، بدل اختلاق معارك هامشيّة للاستنزاف أو التلهية والتفرقة؟
أليست المعوّقات الفعليّة لتخلّفنا هي العجز عن حلّ إشكالية الحكم والتداول على السلطة بما يفتح المجال للمبادرة والإبداع في إنجاز التنمية الشاملة واستيعاب كل طاقات البلد وفق معايير الأهليّة والكفاءة والوطنيّة؟
من يسمع خطاب “جماعة صادي” يتبادر إليه أن الجزائر خاضعة لحكم ثيوقراطي لاهوتي يمنع تقدّمها نحو الحداثة، بينما نحن نعيش في “جمهوريّة شعبية”، كل القوانين الناظمة لها والضابطة لمؤسساتها وسلطاتها مستمدّة من روح العصر، لكنّ المعضلة الأساسيّة تكمن في الهوّة الفاصلة بين النصوص والواقع، وتلك معركة شاقّة وجب أن يخوضها الجميع في كافة المستويات السياسية والتشريعية والثقافيّة، لأنّ التغيير عملية متشابكة ومتكاملة الأبعاد.
ليس الهدف من هذه السانحة أن نجادل المتحدث في ما صرّح به، فهو يعبّر في النهاية عن رؤى حزبيّة لا تلزم الجزائريين في شيء إلا من رضي بها عن قناعة، بيْد أنّ زعيم “التجمّع” هرف كثيرًا بما لا يعلم في شأن الدين، وإنْ كان يفقه معالم الحداثة التي يقصدها على مقاس البيئة الغربية الخالصة، ما يستوجب الوقوف عند بعض الأفكار الملغّمة في مقاربته للعلاقة الجدلية بين الدين والسياسة في الوضع الجزائري.
لقد تحاشى الرجل عن عمد استعمال لفظ “الإسلام” في تعبيراته الفكريّة، متناولاً بالعموم ما يسمّيه بـ”المسألة الدينية”، كأنّ في الجزائر شعبًا متعدّد النِّحل والمِلل، وهي خلفية مقصودة للمطالبة المبطّنة بضرورة فتح البلد لكلّ المبشرين لنشر الأديان المحرَّفة، وذلك ما يتّضح من دفاعه لاحقًا عن تدريسها في المدرسة.
بلعبّاس يتساءل في ندوة عقدها ببجاية: “هل يمكن للممارسة الدينية في الإسلام أن تتأقلم للتوفيق بين الروحانية وحقوق الإنسان والتقدُّم العلمي”؟ والسؤال هنا ليس في سياق الاستفهام، بل النفي والإنكار، ما يؤكد أن العلمانية الجديدة عند هؤلاء تجاوزت إبعاد الدين عن الدولة إلى فصله عن الحياة!
أمّا قوله إن “الدين”، أي الإسلام عنده، يعرقل ولوج الجزائر إلى الحداثة، فهو جهلٌ بالاثنين معًا، لأنّ خلاصتها هي الليبراليّة بوجهيها السياسي والاقتصادي، والإسلام ينسجم مع الديمقراطية كآليةٍ إجرائية لتنظيم كيفية الوصول إلى السلطة والتداول عليها، مثلما يقوم على الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج، لكن ضمن قيمه الثقافيّة وخصوصياته الحضاريّة، التي يريد لها هؤلاء الانحلال باسم العولمة.

مقالات ذات صلة