-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأستاذ بوزيد كحّول.. رجلٌ شيمتُه الوفاء

لمباركية نوّار
  • 1009
  • 1
الأستاذ بوزيد كحّول.. رجلٌ شيمتُه الوفاء

الوفاء قيمة من أرفع القيم الإنسانية ومن أشرفها وأغلاها، ومن رُزقها وعاش لها بقلبه ولبه كسب احترام الناس في حياته وبعد مماته. وتتطلب هذه القيمة النفيسة الانتصار على تقلبات النفس، واحتواء كل ما يستطيبه العقل وتستلذه العين مما يصدر عمن يستحقون أن يقابلوا بها عن طيب خاطر في أوقات حضورهم أو في أزمان غيابهم عن مرايا العين، وحين امتلاكهم للسلطة والجاه والمال أو فقدانهم لها. ولما كانت هذه القيمة بهذا المواصفات فقد قلت في الأفراد والمجتمعات، وندرت في بني البشر؛ لأن من مساوئ النفس البشرية التبدل والتغير والالتواء والالتفاف.

لا يمكن أن تثبت شيمة الوفاء وتستقر على حال ما لم تؤطرها شيم أخرى تعضدها وترعاها حتى لا تذوي وتذوب في قلب صاحبها. ومن القيم الأخرى التي تتقاطع معها قيمة الجسارة والجهر بقول الحق، والمواجهة من غير تول أو نكوص، والصبر مع طول النفس في المنازلات، والثبات في طريق السير حتى وإن طالت وكثرت منعرجاتها. وقد استطاع الفقيد الصديق العزيز بوزيد كحول أن يقبض بيده باقة هذه القيم مجتمعة، وأن يضغط عليها بأصابعه على راحته كمن يحوز كنزا ثمينا، ويخشى على فقدانه أو ضياعه بعد أن وضع قيمة الوفاء تاجا على ذروته. ويشهد له أنه كان نموذجا مضيئا ورمزا لائحا وعنوانا سامقا في الوفاء.

في نهاية سبعينيات القرن العشرين ومطلع ثمانينياته كان الأخ بوزيد كحول يتولى رئاسة معهد الآداب والثقافة العربية في جامعة قسنطينة، يوم أن كانت الجامعة صرحا فخما من حيث التكوين والتخريج النوعيين العاليين. وكان اسمه يلوح كنار فوق علم. وشخصيا، كنت أردد اسمه أكثر مما أذكر اسم مدير معهد العلوم الحيوية “البيولوجيا” الذي انتمي إليه. وكنت أتردد على كلية الآداب باستمرار للإطلاع على مجلة معهد الآداب والثقافة العربية الحائطية التي أصبحت، فيما بعد، إلى مجلة ورقية مطبوعة طباعة متواضعة وتحمل اسم: “الضاد”. ولم يكن النقاش والسجال يتوقفان حول ما تزفانه من مواضيع مختلفة إلى قرّائهما، لأنهما كانتا منبرا حرّا تتبارى فيه الأقلام، ويتصارع في مسرحهما أصحاب التوجهات الفكرية المختلفة من وطنيين وإسلاميين ويساريين الذين يفضلون أن ينعتوا بالشيوعيين. وكشف لنا الزمن أن بعض هؤلاء من مختلف التيارات كانوا مجرد ظواهر استعراضية مؤقتة حينذاك، وقد غيروا قبلتهم وأصبحوا يحلبون في كل إناء بمجرد أن أقدمت عليهم الحياة، وجاءتهم زاحفة ببهرجها وأغرتهم بزينتها وزخارفها. ولكن الأخ بوزيد كحول ظل ثابتا على أفكاره وعاضا على قناعاته الوطنية التي آمن بها حتى آخر نفس من أنفاسه، ولم يبدل مبادئه التي كان ينظر إليها كمسلمات؛  لأنه لا يعرف البيع أو الشراء في أسواق النخاسين.

استطاع الأخ بوزيد كحول أن يصنع من نفسه ربانا مؤهلا وقائدا حكيما لتوجيه سفينة معهد الآداب والثقافة العربية في بحر لجي كثير الأمواج وعنيف الاضطراب، ولا يتوقف مده وجزره عن التناوب في الظهور. ولم تكن ميولاته وأفكاره التي سرت في نفسه حتى النخاع تدفعه إلى الانحياز أو الميلان في الحكم والفصل بين مرؤوسيه. وإنما كان اعتداله سببا في كسب قلوب كل الطلبة وأغلب الأساتذة ونيل ودهم وربح محبتهم. وعاش الرجل صاحب القامة القصيرة والمنكبين العريضين والنظرة الحادة والشخصية القوية ذات الهيبة والرهبة مسؤولا بأتم معنى الكلمة، ومتهيبا من طرف كل من تسوء له نفسه السير في طريق التحايل والمغالطة لبلوغ مآربه. وكم من تعيس جرب حظه معه في ريبة وعوج فلم ينل إلا السقوط المدوي والهزيمة النكراء والنكبة الموجعة.

تقدم الأستاذ بوزيد كحول في سنة 1980م برسالة ماجستير وسمها بوسم: “البناء الفني في شعر فدوى طوقان”، وأشرف عليه الدكتور محمد شكري عياد. ويظهر موضوع رسالته تعلقه بقضايا أمته العربية التي أراد أن يدفع بها إلى واجهة الحضور ولو من خلال الشعر حتى لا تظل مغمورة ومهجورة. ولم يشر إلى هذا الهدف المخفي في متن رسالته لا من قريب ولا من بعيد؛ لأنه لا يناسب فحواها. ولو كشف عنه سيكون بمثابة ثغرة في عمله الأكاديمي قد يحاسب عليها.

ألمح إلى أن الطالب بوزيد كحول كان صاحب نظرة تجديدية في النقد الأدبي للشعر الذي أراد أن يخلصه من سباته في شرنقة تقليديته السطحية، وأن يحرره من الرؤى التي رأى فيها قصورا وتراجعا عن مسايرة نظريات القراءات النقدية الجديدة. وقد أشار في مقدمة رسالته إلى ذلك بقوله: (… وفيما يتعلق بنقد الشعر، فإن الحركة النقدية عندنا ماتزال أسيرة النظرة النقدية القديمة من حيث اهتمامها بالفن الشعري عموما دون التفات إلى طبيعة البناء النقدي للقصيدة الشعرية من حيث تجزئتها النص الشعري إلى الثنائية القديمة الساذجة، أعني قضية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون. وهي قضية أساءت إلى الدرس النقدي من حيث أرادت خدمته).

لم يدم بقاِؤه طويلا في الجامعة، إذ انخرط في العمل السياسي كليا، وانتدب إليه كمحافظ لجبهة التحرير الوطني في ولايتي قالمة ووادي سوف. وكانت له مواقف مشهودة مع مسؤولي الولايتين المقصرين في أداء واجباتهم وفي خدمة المواطنين ورعاية مصالحهم. وبعد أن غير إتجاهه، كانت الجامعة الجزائرية أكبر الخاسرين إذ ضيعت مع فقدانه مشروع ناقد أدبي موعود وموهوب ونابه وذكي. وقد حدثني أحد زملائه من المدراء الولائيين في ولاية الوادي كيف حذره من خطر أحد المتزلفين الذي كان كثير التردد على مكتبه بحجة الدفاع عن العمال. وقد أثبتت الأيام صدق حدسه، وأظهرت أن الشخص المعني من طينة التافهين الذين لم يعرفوا للوطن حرمة، ولم يصونوا له ذمة ولا عهدا في مستقبل أيامه.

يظهر وفاء الأستاذ بوزيد كحول ممنوحا لكل خلصائه، ويظهر أكثر مع الأستاذ عبد الحميد مهري، رحمهما الله، الذي اشتغل معه لعدة سنوات في قيادة حزب جبهة التحرير الوطني من بعد أن استوفى أجله حتى تظل ذكراه العطرة حية في القلوب وفي الوجدان، ولكي يخلد تراثه الفكري الزاخر. وظل يخلص لإحياء ذكراه كلما دار الحول دورته معلنا عن حلول يوم رحيله بقلب مغمور بالحب والتقدير والإكبار.

شكل الأستاذ عبد الحميد مهري بالنسبة للأستاذ بوزيد كحول، رحمهما الله، مثاله الأرفع في الوطنية ومنواله الأعلى في الدفاع عن قيم ومقوّمات الوطن، والذود عن تاريخه وأمجاده. ومن أجل ذلك، كان يصبر صبرا جميلا أمام تعنت الإدارة وعسفها من أجل أن يستصدر منها ترخيص إحياء ذكراه. وقد رأى في المرات الأخيرة أن ينقلها من مدينة قسنطينة إلى مدينة “الخروب” مسقط رأس الأستاذ عبد الحميد مهري. وكان صبره يتمدد كلما نصبت العراقيل في طريقه لصده، ووضعت الصعاب أمامه لثنيه. وجرى آخر لقاء جمعنا بهذه المناسبة التي نسترجع فيها فضائل وذخائر الأستاذ عبد الحميد مهري في شهر جانفي من سنة 2018م. ولم يتمكن في السنة التي تلتها من تحقيق هذا المبتغي بعد أن عجز عن الحصول على الرخصة رغم إلحاحه. وبعد انتظار امتداد عدة أيام، ورغم ظروفه الصحية القاسية، أشعر بأن الطلب الذي قدمه لم يحظ بالقبول من دون شرح لأسباب هذا الرفض. وكان ينوي، لو عقد هذا اللقاء، أن يمنحه بعدا يتجاوز حدود الوطن. ولما بلغ إليه القرار شفويا، كلمني بعبارات تفيض بالأسى وتمطر بالتأسف، وأخبرني عن خيبة مسعاه. وختم كلماته التي تقطر بالمرارة بقوله: (حتى وإن حرمنا من اللقاء كالعادة، فسنظل أنا وأنت نحيي هذه الذكرى سويا كل سنة. وهذه وصيتي إليك ووديعتي التي ألقيها بين يديك، إن غبت).

لما أقامت جامعة الأمير عبد القادر بمدينة قسنطينة وقفة تذكارية للراحل الأستاذ عبد الحميد مهري في السنة الثانية من بعد رحيله على ما أذكر، قدم أحدهم مداخلة مرتجلة ذهب فيها مذهبا انتقاديا وتقزيميا للمحتفى به مستشهدا بما قاله عنه فتحي الذيب في وصف شخصيته في كتابه المعنون بعنوان: “عبد الناصر والثورة الجزائرية”. ولم يكن الأستاذ بوزيد كحول من بين الحاضرين في ذلك اليوم، ولكن وجد من نقل إليه أخبار مجريات الوقفة بتفاصيلها. فأغتاظ مما قيل من صنوف التشكيك والتجريح بغرض الإساءة إلى أستاذه والتنقيص من مكانته والتخفيض من شأنه. ووجد الفرصة مناسبة في أول لقاء يعقد بمدينة الخروب، فبمجرد أن أنهى هذا المتجني على الأستاذ عبد الحميد مهري مداخلته، تناول الكلمة من بعده مباشرة، وعاد به إلى ما قاله سابقا، ولقنه درسا بليغا بعبارات براقة الدلالة كمن يطرد باطلا في تقويم الرجال لن ينساه ما ظل حيا. ورغم أنه كان يتحدث بصعوبة، إلا أن كلماته كانت تخرج بين شفتيه المتعبتين كالرصاصات الحارقة. وأشفقت عليه، وحاولت أن أوقفه بعد أن تشجعت على مقاطعته، إلا أنه رمقني بنظرة شزرة قرأت فيها ثورته الغاضبة، فلذت بالصمت. ولم يسمع الحاضرون تعقيبا أو ردا عن مرافعته اللهوبة.

قاسى الأخ الصديق بوزيد كحول في سنوات عمره الأخيرة من الأمراض المستعصية ما تضعف الجبال الرواسي عن تحمله. ولكنه تجلد وصبر أمام هذه الابتلاءات التي ظلت تتضاعف وتتقوى يوما بعد يوم، وتتكالب على جسمه بلا رحمة. ولما عجزت قدماه على حمله حتى وهو يستعين بعكاز، استسلم، وآثر المكوث في فراش المرض بصحبة مصحفه حتى خانته عيناه.

لم أنقطع عن التواصل بالهاتف معه محاولا، في كل مرة، أن أتخير الأوقات المناسبة حتى لا أزعجه. وكنت أقرأ أو ألخص له بعض المقالات كلما وجدت عنده جهدا على الإصغاء وقوة على المتابعة. وكان يرتاح لمختاراتي ويفرح بما أسمعه. ولربما كان يجد فيها شيئا من العلاج النفسي الذي ينسيه أوجاع أمراضه لبعض الوقت. وكنت كلمته في آخر مرة بمناسبة عيد الاستقلال، إذ هنأته ودعوت له بالشفاء.

صعب علي سماع نعي الأخ العزيز الأستاذ بوزيد كحول في صباح يوم الجمعة التاسع جويلية الماضي، وهو خبر المحزن وموجع؛ لأن رحيله هو قطيعة نهائية للصداقة التي جمعتنا به وتقويض لجسورها. وهو ثلمة شقت شيمة الوفاء التي كانت من أبرز عناصر شخصيته، والتي جمع بها أكواما من احترام عارفيه ومحبيه، ولربما حتى مناوئيه.

رحم الله الأخ العزيز الأستاذ بوزيد كحول الذي تعلمنا منه أقساطا عظمى من مبادئ الحياة المستقيمة، ورش الله حبيبات تربة قبره بالمسك المعتق، وجعله من الفائزين والمنعمين في جنة الرضوان.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • حسن

    عرفته كمراقب بثانوية بن باديس في سبعينيات القرن الماضي كنا صغارا نتمتع بلغتنه الراقية وصرامته في الحفاض عن النظام والانظباط. رحمه الله واسكنه فسيح جنانه