الرأي

الأمازيغيّة بين العقلاء والمتعصّبين

سلطان بركاني
  • 2027
  • 27

قبل أن يحتدم الجدال المثار مؤخّرا حول تثبيت اللغة الأمازيغية لغةً رسمية في الدستور الجزائري، وينطلقَ النقاش حول فرض تعلّمها في المدارس، كان بعض الشّباب المتحمسين للقضية الأمازيغية في مناطق غالية وعزيزة بترابها وأهلها، قد بدأوا ينشطون، منذ سنوات، في المطالبة بإضافة اللغة الأمازيغية المكتوبة بحروف التيفناغ إلى لوحات اللافتات واللوحات الإرشادية، ويتطوّعون بوضع معالمَ ونصبٍ في مداخل ومراكز بعض البلديات والدوائر والولايات، تحمل صورا ورموزا تشيد بالهوية الأمازيغية لتلك المدن.

 هذه المبادرات رأى فيها المتحمّسون للقضية الأمازيغية خطوة مهمّة على طريق ترقية مكانة اللغة الأمازيغية، وإرساء دعائم التنوّع اللغوي، بينما رأى فيها غير المتحمّسين للقضية محاولةً لفرض خيار لا يعني الأغلبية في شيء، ولا يقدّم أيّ فائدة لجيل الشباب المتعطش لتعلم لغات عالمية تنفعه في مساره الدّراسيّ وتفتح له آفاق البحث والفهم.

 أنصار القضية الأمازيغية ليسوا سواءً

بعيدا عن ثقافة التعميم والأحكام المسبقة، ينبغي الاعتراف بأنّ بعض المنافحين عن الهوية العربية ممّن يخوضون غمار النّقاش الدّائر حول القضية الأمازيغية، يعانون حساسية مفرطة تجاه القضية، ويعتريهم شكّ مبالغ فيه في كلّ من ينشط لصالحها، إذ يصرّون على أنّ القضية برمّتها مشروع تحرّكه دوائر لا تريد بالجزائر ولا بشعبها خيرا.. وهؤلاء تبنّوا موقفهم هذا كردّ فعل للتعصّب المقيت الذي أظهره بعض المتحمّسين للأمازيغية، من حمَلة شعار: “نحن وفقط” ومن محترفي الإقصاء والعداء.

الإنصاف يحتّم علينا أن نشهد بأنّ أنصار القضية الأمازيغية ليسوا سواءً؛ فبينهم عقلاء مثقفون واعون، يحملون همّ التمكين للّغة الأمازيغية وترقيتها، لتكون منافسة -بشرف- لأختها العربية، ولِمَ لا لكلّ اللغات العالمية، وهؤلاء لا مشكلة لديهم مع العرب الأحرار والعربية، فضلا عن أن يكون لديهم مشكل مع الإسلام أو تاريخه في الشمال الإفريقي، ويمكن التعاون معهم والالتفات إلى أصواتهم العاقلة، حتى لا تضيع وسط الأصوات الأخرى.

في مقابل هؤلاء، هناك أتباعٌ، غالبيتهم من أصحاب المستويات التعليمية المتواضعة والثقافة المحدودة؛ يندفعون بحماس، ويجادلون بغلظة وسوء أدب، وينشرون العصبية المقيتة، ومنهم من يلعب على وتر الجهوية والمناطقية، ويروّجون لشعارات لا يعلمون مصدرها.. ولأنّهم لا يملكون تصوّرا واضحا لأهداف النّضال ووسائله، ولا يعلمون شيئا عن الأجندة التي تؤزّهم من خلف السّتار، فإنّك تسمعهم يجزمون ويؤكّدون في بداياتهم -بصدقٍ- أنّ مشكلتهم ليست مع الإسلام، فهم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، ثم لا يلبثون أن يهاجموا العربية، ويصفوا الفتح الإسلامي بأنه “احتلال عربي”! ثم إذا بهم يتحدّثون عن “إسلام أمازيغي” في مقابل “الإسلام العربي”! وعن أكسيل (كسيلة) وديهيا (الكاهنة) في مقابل عقبة بن نافع وموسى بن نصير وحسّان بن النّعمان! لينتهي بهم المطاف إلى التنصل من رابطة الإسلام أو على الأقلّ دحرجتها على سلّم الأولوية والأهمية، وربّما ينحدرون إلى دركٍ ما كان يخطر ببالهم أن ينزلوا إليه.. والمتتبّع لواقع القضية الأمازيغية عند إخواننا وجيراننا في كلّ من تونس والمغرب، يرى حجم التطرّف الذي بلغه المتعصبون هناك ويسير نحوه المتعصّبون عندنا بخطى حثيثة.. لافتاتٌ وصفحات وأغانٍ وشعارات، تنضح بسبّ العرب، وتجريم الفاتحين، والدّعوة إلى إعادة كتابة التاريخ، وتهاجم من يُنبزون بـ”العروبيين” و”القومجيين” و”أحفاد أبي لهب وحمّالة الحطب”!

إنّه لأمرٌ يدعو إلى الغرابة حقا أن يعادي هؤلاء المتعصِّبُون العربَ، ويدعون إلى محاصرة اللغة العربية، في الوقت الذي لا ينبسون فيه ببنت شفة إزاء الهيمنة الفرنسية، وإزاء الحظوة التي لا يزال يتمتع بها الحرف الفرنسي في الإدارات وعلى ألسنة المسؤولين!

معركة بناء داخلي وليست حربا مع الآخر

ينبغي لإخواننا وأحبابنا الشّباب المتحمّسين للقضية الأمازيغية، أن يدركوا أنّ هناك جهاتٍ ماكرة، تعمل جاهدة لحرف القضية عن مسارها الصّحيح، وتمكرُ لضرب عناصر الهوية بعضها ببعض، بتجنيد -أو على الأقلّ تسخير- المتعصّبين في كلّ الأطراف.

ينبغي لشبابنا أن يترسّخ في أذهانهم أنّ معركة الأمازيغية هي معركةٌ لبناء الذات وإثبات الحضور، معركة لتوحيد اللهجات الأمازيغية، وترقية اللّغة الموحّدة وتطوير كتابتها وإدخالها إلى عالم التقنية، وترغيب الأجيال في تعلمها بجعلها وعاءً للعلم والثقافة والأدب.. معركتها ومعركة أنصارها هي معركة تشييدِ صرحٍ يليق بتاريخ الأمازيغية العريق، وليست معركةً لإلغاء الآخر وهدمه وبناء صرح من خشب على أنقاضه؛ فلغة العقل تقول إنّ من أراد أن يكون صرحه هو الأعلى، ينبغي له أن يهتمّ بتمتين أساسات بنائه وإعلائه، بدل الانشغال بمحاولة هدم ما بناه الآخرون، كيف لو كان أجداده ممّن ساهم فيما بناه الآخرون؟

الإسلام ليس دين العرب وحدهم

الإسلام ليس دينا مختصًّا بالعرب، والنبيّ الأكرم –عليه السّلام- ليس نبيّ العرب وحدهم، وليس يليق بنا نحن الأمازيغ أن ننشغل باختلاق الصراعات ضدّ العرب والعربية، ونحن الذين نعلم أنّ حبيبنا المصطفى –صلّى الله عليه وسلّم- كان عربيا، ولو لم يكن غير هذا السّبب لكان كافيا لأن يحملنا على حبّ العربية التي تَحرّكَ بها لسان حبيبنا وشفيعنا، أو على الأقلّ احترامها، بغضّ النّظر عمّن ساءها انتماؤهم إليها.. كيف وهي اللغة التي نزل بها القرآن، واللغة التي نصلّي بها، وتعلُّمها يعيننا على فهمٍ أكثر لديننا.

في بلاد أفغانستان وباكستان وتركيا وإندونيسيا، وغيرها من البلدان الإسلامية غير العربية، وحتى في كثير من الدول الغربية، تجد المسلمين تحترق قلوبهم وتبكي عيونهم لهفا لتعلّم اللغة العربية التي يجدون مشقّة في النّطق بها وفهمها، وتَعجب لشدّة حبّهم لإخوانهم العرب من غير “الرسميين”، بينما نرى بعض أهلنا من الأمازيغ الذين سادت اللغة العربية في بلادهم ليس بسبب أنّ الفاتحين فرضوا تعلّمها، وكيف يفرضونها على سكان المغرب وهم الذين لم يفرضوها على سكان الأقاليم التي فتحوها في آسيا، ولكنْ لأنّ الأمازيغ وجدوها قريبة من لغتهم ووجدوا تعلمها سهلا فتعلموها وبرعوا فيها وألّفوا في بلاغتها ونحوها؛ نرى بعض شباب الأمازيغ في السنوات الأخيرة أصغوا لوساوس المتربّصين، وأعلنوها حربا جائرة وجريئة على العربية، تمتدّ عند المتطرّفين منهم إلى كلّ ما يرونه مرتبطا بها!

النّهاية المخطّط لها!

النّافخون في كير هذه العصبية، يعرفون جيدا النهاية التي يسوقون إليها الشّباب المتحمّس، فبعد أن فشل مشروع التنصير في بعض المناطق، وأصبح مشروعا منتهي الصلاحية في العالم، أضحى العمل على قدم وساق لصالح مشروع الإلحاد بنسخته العربية الموغلة في الجرأة والحرب على الإسلام من دون سائر الأديان والديانات.. هذا المشروع يعتمد أدوات كثيرة، من بينها النبش في حضارات ما قبل الإسلام وفي رموزها، في مقابل تشويه رموز الإسلام عامّة والفاتحين منهم خاصّة، لذبذبة ولاء الجيل الجديد من شباب المسلمين بين الانتساب إلى الإسلام والانتساب إلى تلك الحضارات، فإن وصلوا به إلى التحلّل من الدين ومعاداته فهي الغاية الأسمى، وإن لم يمكنهم ذلك قنعوا بتركه مذبذبا حائرا، يقول المستشرق “ث. كويلر يونغ”، أستاذ العلاقات الأجنبية ورئيس قسم اللغات والآداب الشرقية بجامعة برنستون الأمريكية، في كتابه “الشرق الأدنى، مجتمعه وثقافته”: “إنّنا في كلّ بلد إسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ولسنا نطمع بطبيعة الحال في أن يرتدّ مسلمٌ إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكنْ يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات”..

ومن أدوات هذا المشروع –كذلك- العزف على الولاء للعرق واللغة، مع التركيز على تسفيه الجنس العربي وتحميل العرب جميعا أوزار ما يفعله بعض المتسلّطين والخائنين المنتسبين إلى العروبة، مع أنّ الخيانة لا تعرف دينا ولا لغة ولا عرقا، إنّما هي انحدارٌ شخصيّ وإخلاد إلى الأرض، يُفترض أن ينسب إلى من يرتضيه بغضّ النّظر عن دينه ولغته وعرقه.

مخابر التّفكير والدّراسات قبل المعالم واللاّفتات

بالعودة إلى ما بدأنا به مقالنا هذا، ينبغي التأكيد على ضرورة أن ينتبه شبابنا إلى مسألة الرمزية، فيجتنبوا الرّموز والمعالِم التي من شأنها أن تقزّم الهوية الأمازيغية وتنشر البغضاء بين الإخوة المسلمين، مثل صور الشخصيات التي حاربت الفتح الإسلاميّ، أو تلك التي عُرفت قبل ذلك بمدّ الحبال للرّومان المحتلّين والتعاون معهم، أيا كانت أغراضُها وأهدافها من التعاون.. أما حرف “الياز” الأمازيغيّ وحروف التيفناغ عامّة، فلا تمثّل مشكلة متى لم تُعرض وتسوَّق على أنّها البديل للحروف العربية ولحرف الضّاد.. مع التأكيد على أنّ الأولوية ينبغي أن تولى للعمل في مخابر التفكير والتخطيط والإبداع لترقية الأمازيغية، وليس على الجُدر واللافتات.

الجزائر أرض شاسعة، تتّسع للعربية والأمازيغية، ولكلّ لغة أخرى يعود تعلّمها بالنّفع على البلاد والعباد في دينهم ودنياهم، لذلك يجب أن تُوأد كلّ دعوة للصّراع والتناطح، وأن يتدخّل العقلاء ليقولوا لمن ينادي “يا للأمازيغ” ولمن ينادي “يا للعرب”: “أبدعوى الجاهلية والإسلام بين أظهركم. دعوها فإنّها منتنة”، ليُخزَى شياطين الجنّ، وأولياؤهم من الإنس، من المتربّصين والمتسلّطين ومحترفي سياسة “فرّق تسد”.

مقالات ذات صلة