الرأي

الأمير عبد القادر وشاميل وبَهادر شاه

محمد سليم قلالة
  • 1959
  • 3

مَن لا يُدرك طبيعة المعارك على جبهة الصراع الفكري والحضاري، لا يمكنه أن يُدرِكَ طبيعتها على الجبهة السياسية أو الاقتصادية أو غيرها. مَن لا يُدرك العلاقة بين الأمير عبد القادر والسلطان شاميل والإمام بهادر شاه لا يمكنه أن يَدَّعي فهمَ أيٍّ منهم، إن سياسيا أو عسكريا أو تاريخيا، ولن تُسعفه في الفهم لا الروايات ولا الوثائق المفصولة عن سياقها ولا التاريخ برمَّته إذا فقد البوصلة الحضارية.

عرف العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن التاسع عشر هجمة غربية مسعورة مشرقا ومغربا.

 في الجزائر جرت انتقاما من هذا البلد الأوسط الذي فتح رجالُه المسلمون الأندلسَ وبنوا فيها حضارة دامت أزيد من 8 قرون. وتصدى لهذا الهجمة الأمير عبد القادر إلى غاية سنة 1847. 

وفي آسيا الوسطى والقوقاز كانت انتقاما من هذه المنطقة التي مازال الاستراتيجيون يسمُّونها إلى اليوم “قلب العالم” والتي انطلق منها الأتراك العثمانيون لفتح القسطنطينية في سنة 1453 وبنوا بها حضارة عالمية دامت أزيد من 6 قرون. وتصدى لهذه الهجمة السلطان شاميل الداغستاني إلى غاية 1859. 

وفي أقصى آسيا كانت الهجمة انتقاما من دولة المغول المسلمين الذين استمرت مملكتُهم في الهند أكثر من 8 قرون إلى غاية القضاء على آخر ملوكهم محمد بهادر شاه من قبل الإنجليز سنة 1858.

بمعنى آخر أن القادة الثلاثة كانوا آخر الأمراء والملوك على جبهة الصراع الحضاري، قبل أن تُحكِم الآلةُ الاستعمارية الغربية الجديدة قبضتها على العالم الإسلامي وتحتلّه. وقد تم القضاء عليهم في نفس الفترة (1847ـ 1858). والمفارقة التاريخية أنهم عرفوا نفس المصير، السجن ثم النفي إلى حين الوفاة:

–  أُسِر الأميرُ عبد القادر زعيم جبهة الجزائر مَغرِبًا من قبل الفرنسيين، ونُفي إلى دمشق حيث توفي هناك.

– وأُسِر الإمامُ شامل زعيم جبهة آسيا الوسطى والقوقاز من قبل القياصرة الروس ونُفي إلى مكة وتُوفي فيها.

– وأُسِر الإمام بهادر شاه زعيم جبهة الهند من قبل الإنجليز ونُفي إلى بورما حيث توفي هناك.

في نفس الوقت، وفي نفس المعركة، وعلى نفس جبهة الصِّراع الحضاري بين الشرق والغرب كان ذلك.

وبعد القضاء على القادة الثلاثة، هيمن الغربُ على الأمة الإسلامية هيمنة مطلقة.. إلى أن استأنفت من جديد ثورتها على جبهة الصراع الفكري ثم السياسي ثم العسكري. وكانت الجزائر في قلب هذه المعارك ورائدتَها. واصل أبناؤها ثوراتِهم الشعبية بعد الأمير عبد القادر إلى بداية القرن العشرين، ثم تحوَّلوا إلى الصراع على الجبهة الفكرية والسياسية مع عمر بن قدور والأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر ومصالي الحاج وابن باديس، وكانت بقيادة آخرين في كافة أنحاء العالم الإسلامي… ثم أحدثوا  الطفرة النوعية في وعيهم بتفجير أمِّ الثورات، ثورة أول نوفمبر التي قادها رجالٌ أفذاذٌ مُدركون لعمق التحدي الحضاري، وضعوا كل أهدافها في إطار المبادئ الإسلامية كما جاء في بيان أول نوفمبر… واستعادت الدولة الجزائرية الحديثة التي كافح من أجل تأسيسها الأميرُ عبد القادر سيادتها السياسية، إلا أن معركة تحريرها التامة ووضعها ضمن إطارها الحضاري لم تنته…

وبرغم من أن عواصم البلاد الإسلامية أغلبها اللحظة تحت الاحتلال أو الحصار أو القصف في محاولة أخرى من الغرب لاستعادة تفوُّقه الحضاري تحت غطاء الديمقراطية تارة وحقوق الإنسان أخرى ونشر المدنية الغربية ثالثة، إلا أن إدراكنا لطبيعة المعركة اليوم ووعينا بخطورتها وشراستها وجذورها خاصة، لا شكّ كاف لنكون أوفياء  لتضحيات الأولين في القرن التاسع الأمير عبد القادر وشاميل وبهادر شاه.. ولِتضحيات آبائنا المجاهدين في القرن العشرين قادة ثورتنا التحريرية المظفَّرة، بل إنه كاف لِيتمكّن أبناؤُنا من مواصلة المسيرة في القرن الحادي والعشرين بالوعي والإدراك الحضاري اللازمين، وتلك مساحة أمل. 

مقالات ذات صلة