الرأي

الإستقلال المبدأ والممارسة

التهامي مجوري
  • 832
  • 4

مصطلح الاستقلال يعد من أقدس المصطلحات عند الجزائريين؛ لأنه ارتبط بأبشع استعمار عرفه العالم في القرنين الماضيين، القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وأكثر من تجرع مرارته، ولا تزال بقايا هذه المرارة وآثارها إلى يوم الناس هذا.
ولكن هذه القداسة لم تبق على ما كانت عليه قبل الإستقلال، أو حتى بُعَيْده، بسبب ما أصابنا من الوهن الذي فرضته مراصد ومخابر الإستدمار الفرنسي، خلاله وجوده ببلادنا طيلة 132 سنة، وبعد رحيله عنا منذ سنة 1962.
فالإستقلال كمبدأ سكن الإنسانية عموما والجزائري منها كرديف للحرية، التي هي جزء من الحياة، ولم تفارق الجزائري هذا المبدأ طيلة ما يقارب القرنين 1830/2018، ولكن التعبير عنه كان مختلفا من شخص لآخر ومن فئة لأخرى، فتَنَوَّع التعبير عنه بتنوع وسائل الجهاد والنضال التي مارسها الجزائريون في مقاومة هذا الاستدمار العاتي وهي كثيرة، وأقلها التمرد على إدارته وإرادته، إلا عند شرذمة من القاعدين الفاسدين المفسدين، من الذين تأسس على كواهلهم تيار الحركى والقياد الخونة، الذين يراد لهم أن يعودوا من جديد لإنتمام رسالة الخيانة التي بدؤوها من قبل.
فمنذ أن دخل الاستدمار الفرنسي بلادنا، وحركة الجهاد المسلح لم تتوقف طيلة قرن تقريبا 1830/1916، فكلما خبت ثورة في منطقة من مناطق الوطن، اندلعت ثورة أخرى في منطقة أخرى، بحيث غطت الثورات أغلب مناطق الوطن؛ بل إن بعض المناطق التي تأخر احتلالها مثل منطقة تندوف التي لم يصلها فيروس الإستدمار إلا في سنة 1930؛ كان السبب في ذلك هو أن فرنسا كانت تخاف رد فعل أحفاد المرابطين هناك، فأرجأت الغزو إلى أن توفرت لها شروط النجاح وضعفت الموانع، فانقضت على المنطقة وألحقتها بباقي البقاع المستعمرة.
ولما أخمدت حركات المقاومة المسلحة، نشأت حركة المقاومة الإصلاحية بشقيها: الشق التربوي الثقافي على يد رجال الإصلاح، ابن باديس وصحبه 1913، ثم جمعية العلماء سنة 1931، والشق السياسي على يد الأمير خالد 1920، فالتيار السياسي الثوري بميلاد حزب نجم شمال إفريقيا الذي أنشئ في فرنسا سنة 1926، فحزب الشعب الجزائري 1937…، وأخيرا الثورة الشعبية التي احتوت جميع هذه التيارات في سنة 1954، كل ذلك كان من أجل تحقيق هذا المصطلح المقدس الذي هو الإستقلال، ومع ذلك لم يتحقق هذا الاستقلال كما كانت تهدف إليه الحركة الوطنية والثورة الجزائرية بعد ذلك، حتى أن الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله، عندما قيل له بعد الانفتاح السياسي سنة 1989، إنك انشغلت عن قواعد الحزب وبنائه وضبط هياكله بمواقفك السياسية….، فقال لهم –فيما معناه- إن جبهة التحرير الوطني أنشئت لتحقق الاستقلال الوطني ونداء أول نوفمبر “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية”. وكل من يعمل لهذه الغاية أعتبره من جبهة التحرير، سواء كان في هياكلها أو لم يكن.
وكأني بالأستاذ عبد الحميد مهري، يرى أن ما حققته الجزائر طيلة فترة الاستقلال لم يبلغ المستوى الذي كانت تطمح إليه الحركة الوطنية ثم الثورة الجزائرية؛ لأن الاستقلال العسكري الذي تحقق في 19 مارس بوقف القتال ليس كل شيء…، وكذلك اندحار العدو ليس كل شيء.
إن أهم أجنحة الحركة الوطنية العاملة لتحقيق الإستقلال هي الإتجاه الثوري الذي كان ينادي بالإستقلال منذ نشأته في الربع الأول من القرن العشرين، واتجاه العلماء الذي كان يعمل من أجل الاستقلال في نفس الفترة تقريبا، وذلك بإعادة صياغة المجتمع من جديد بعدما كاد يمسخ، فأعاد له شخصيته ببناء عالمه الثقافي المؤسس على ثوابته الوطنية “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا”، فالتقت الحركة الوطنية بجناحيها على هذه الثلاثية التي تبناها حزب الشعب أيضا.
إن مفهوم الاستقلال ببعده السياسي الثقافي الذي كانت تعمل له الحركة الوطنية، لم يكن مجرد تحقيق الانتصار العسكري للجزائريين على فرنسا، وإنما كان من أجل تحقيق الإنفصال التام عن فرنسا، التي كانت تعمل على إلحاق بلادنا ظلما وعدوانا بها، ومسح ما قامت به خلال 132 سنة..، من مسخ وتشويه لشخصية الجزائر بانتمائها الوطني، الشمال إفريقي، العربي والإسلامي، ولكن لما كان الإستعدمار بمخابره ومراصده، يعمل على قدم وساق من أجل تشويه معنى هذا الاستقلال، بإحداث الفتن والخلافات وزرع بذور الشر في كل مكان يمر به الوطنيون الحقيقيون.. كانت فتنة التفريق بين حزب الشعب وجمعية العلماء، وبين الزوايا والعلماء، وبين العرب والبربر في فتنة الأزمة البربرية،؛ وأي طرف من هذه الأطراف ما كان له أن يحقق مكسبا وطنيا لو لم يجد مساندة من غيره من أبناء الوطن، بما في ذلك حزب الشعب الذي كان يطالب بالاستقلال، وجمعية العلماء التي كانت تعمل له.
ولكن باجتماع الجهود مهما تواضعت يتحقق الاستقلال، وقد اجتمعت التيارات كلها في الثورة بما في ذلك من كان يبحث عن توافق معقول بين الجزائر وفرنسا، وليس من تيار الاستقلال، وحققت الكثير من الانتصارات.
روى لي أحد الفدائيين عن أحد شيوخ جمعية العلماء وهو الشيخ الهاشمي بن حميدة وهو من مجاهدي وادي سوف كان مقيما في العاصمة، وكان في نفس الوقت مناضلا في حزب الشعب، فكانت مهمته في الثورة هو تعبئة الشباب الفدائيين “Les groupes de choc”، فكان يقول لهم إن وجودي بينكم هو إذا كتبت لكم الحياة تعيشون مجاهدين في سبيل الله، وإذا مِتُّمْ فإنكم شهداء.
إن أول من طالب بالإستقلال هو نجم شمال إفريقيا فحزب الشعب وحركة الانتصار، وظل هذا المطلب هو الشعار الوطني الأقوى في تاريخنا السياسي بقطع النظر عن معقولية هذا المطلب في النصف الأول من القرن العشرين من عدم معقوليته، حيث أن المنطق التحرري الذي انتهجه الحزب مفترض فيه أنه لا يؤمن بالمطالب؛ لأن الطلب من الاستعمار بالنسبة لحزب ثوري تحرري… غير معقول، ومن ناحية أخرى كانت موانع الاستقلال أوفر من وسائله ودواعيه، ومع ذلك فأن مجرد المطلب كشعار سياسي كان له مفعوله في إعادة الأمل وبعث الروح الوطنية من مرقدها.
وأول من عمل لذلك فربى الرجال وكون الإطارات وأعاد للأمة عالمها الثقافي الذي عملت فرنسا على محوه ومسخه هي جمعية العلماء… واستمر الوضع في نمو مطرد إلى أن اندلعت الثورة وإلى ما بعد الاستقلال..، ولكن قوى الاستدمار لم تكن نائمة، فقد قاومت الفعل الوطني المتميز بكل ما أوتيت من قوة، بطرق متنوعة.. منها الإيقاع بين أجنحة الحركة الوطنية، وتأليبها على بعضها البعض بعد اختراقها، وإيهام كل طرف انه هو الأفضل والأقرب إلى تحقيق الاستقلال، وإشاعة التهم فيما بين العاملين.
لا شك أن ما وقع بين أبناء الحركة الوطنية والوطنيين عموما بجميع فصائلهم، قد أخر الثورة عن مواعيدها؛ لأن استعدادات الشعب الملتف حول رجاله الوطنيين الحقيقيين كان منذ 1936، ابتداء من المؤتمر الإسلامي، ومن ثم كان التاريخ الأنسب لاندلاع الثورة، هو مع إرهاصات وبداية الحرب العالمية الثانية، عندما كانت فرنسا منشغلة بحربها مع الألمان وبتصفية حساباتها مع خصومها في الدائرة الأوروبية، وطيلة هذه الفترة 1936/1954، شعر الاستدمار بخطورة هذا الحراك الذي اجتمعت فيه القوى السياسية الجزائرية، حيث اعتبر المؤرخون أم المؤتمر الإسلامي سنة 1936 أول تكتل سياسي.
بدأ التحضير لمواجهة هذا الفعل بفعل استعماري أقوى، ولذلك لما اندلعت الثورة لم تندلع بتوافق سياسي قوي، بسبب ما بين السياسيين من خلافات طالت مناضلي التيارات السياسية فيما بينها، وإنما اندلعت بمبادرة من مجموعة من الجناح العسكري لحزب الشعب، وأجبر الجميع على مباركة الفعل..، وكذلك لولا رجال من الوطنيين ممن كانت لهم العلاقات الواسعة والسمعة الطيبة، تبنوا الثورة بعد اندلاعها لما علم بها أحد؛ لأن الذين أشعلوها أغلبهم من الشباب الذين لا يعرفهم الناس…. [أنظر سعد الله آراء وألحاث في تاريخ الجزائر].
ومع ذلك انتصرت الجزائر على أعتى قوة في زمانها، بسبب ما تحمل الثورة من قيم تحررية يتلهف إليها الصغير قبل الكبير، والأمي قبل العالم، والفقير قبل الغني…، ولكن فرنسا التي أجبرت على الاعتراف بحق شعب في الاستقلال عنها، لم ترد لهذا الاستقلال أن يتحقق كما يريد له أهله، وإنما أرادته كما تحب هي… كيف ذلك؟
ذلك ما سنجتهد في الكشف عن أصوله في مراجعة لاحقة إن كان في العمر بقية.

مقالات ذات صلة