الرأي

الإضرابات في التعليم….لامسؤولية قاتلة

ليس هناك ما يتزايد ويتكاثر في الجزائر مثل تنامي ظاهرة الإضرابات في حقل التعليم خلال السنوات الأخيرة، سيما في المرحلتين التكميلية والثانوية، وهذا للمطالبة بحقوق شتى. لكن محلل أسبابها ودواعيها سيكتشف أن كلها تصب في خانة واحدة : خانة الرواتب والعلاوات. فمن هو المسؤول عن هذا الوضع الذي صار بمرّ سنين وضعا لا يطاق؟

ومن الأمور التي تشد انتباه المواطن أن في نفس المكان يمكن أن يجد مؤسسات التعليمية، منها الخاص ومنها العمومي. والملاحظ هذه الأيام أننا في كل صباح نرى تلاميذ عائدين إلى بيوتهم بسبب الإضراب وآخرين يدخلون مدارسهم بصفة طبيعية. الفئة الأولى هي تلك التي تزاول تعليمها في المدارس الحكومية، والفئة الثانية هي المتمدرسة في المؤسسات الخاصة. كيف نفسر هذا الوضع؟ البعض يطالب بالحقوق، والبعض الآخر راض عن الحقوق الممنوحة إليه… رغم أن هذا الأخير ليس أفضل حالا من الأول. ليس هناك أكثر من تفسير لهذا المشهد.

وحتى نعِيَ بحجم الكارثة نتصور تلميذا دخل المرحلة الإعدادية منذ 4 أو 5 سنوات، وفي كل سنة يضرب أساتذته شهرين أو يزيد خلال كل سنة دراسية. حساب بسيط يبيّن أن هذا التلميذ قد أضاع ما يعادل سنة مدرسية كاملة أو يزيد من جراء هذه الإضرابات المتكررة خلال تلك السنوات!  

ثم يصل التلميذ إلى السنة النهائية، ويضرب هو للمطالبة بـ”العتبة”… بعد أن يضرب أساتذته. وترضخ الإدارة، وتلغي الفصول والفصول من المناهج إرضاء له، وربما لذويه أيضا. ويحصل ذلك التلميذ على البكالوريا ويدخل الجامعة لأن وزارة التعليم العالي تضمن له ما تسميه “مقعدا بيداغوجيا” بمجرد اجتيازه “العتبة”.  

وتبدأ رحلة التعليم العالي ويستبشر الطالب بدراسته الجامعية في مؤسسة “مزدهرة” بالمنظمات الطلابية المنضوية تحت رايات أحزاب لا يهمها كثيرا شأن الطالب وتحصيله العلمي بقدر ما يهمها توظيفه واستغلاله مشاكله لقضاء مآرب أخرى. ولذا فهي قادرة على شلّ المؤسسات الجامعية لأدنى الأسباب، بل وغلق مكاتب المسؤولين والأقسام. وإذا كان الوضع يسير على هذا المنوال فما المانع أن يغلق هؤلاء باب الجامعة لأن الأساتذة لم يلبوا مطلب الطالب، وهو النجاح في كل الأحوال، مهما كانت العلامات التقييمية للطالب. وترضخ مرة أخرى الإدارة!

ولماذا لا نطالب بأن يسجل الجميع في الماستر وينجح؟ ولماذا لا يسجل الجميع في الدكتوراه وينجح؟ ولماذا لا تصنف هذه الشهادات في أرقى سلم للوظيف العمومي؟ ثم إن الأساتذة ونقاباتهم ليست في منأى من هذه المسؤولية. فالأستاذ الجامعي اليوم يكتفي في أحسن الأحوال بالقليل في أداء المهام المنوطة به (عدد قليل من الدروس والهروب بعدها إلى مكان آخر حيث الراحة أو الكسب المادي). وفي كل ذلك فالضحية هو التلميذ أو الطالب الذي يسعى إلى الدراسة الجادة.

  – مسؤولية الإدارة : هذه المسؤولية متعددة الأشكال، منها التصنيفات الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ في الوظيف العمومي منذ أزيد من 6 سنوات… والتي فتحت باب جهنم على كل الإدارات. فالكل يقارن هذا بذاك ويستخلص أنه بشكل من الأشكال مهضوم الحقوق. وحتى ينال تلك الحقوق فلا مفرّ من الإضرابات وشلّ المؤسسات. تلك هي العواقب الوخيمة لعمل مسؤولين ذوي كفاءات محدودة، أو ذوي نوايا خبيثة أدت بالبلاد إلى دوامة من المطالب عبر إضرابات لا نهاية لها.

– مسؤولية المعلم والأستاذ : مسؤولية عظمى، أعظم من المطالب المادية. كيف يسمح هذا المعلم أو ذاك الأستاذ أن يضحي بآلاف، بل ملايين، بل جيل بأكمله في سبيل دراهم معدودات؟ المطالبة بالحقوق، نعم!  لكن بوسائل لا تؤدي إلى تهلكة جماعية. أيٌّ جيل هذا الذي نحن نكوّنه بهذه الطريقة ونتقاضى في سبيل ذلك أجورا (مهما كانت مجحفة)؟!

خلال إضراب طال مداه خلال السنة الماضية سألنا أحد الزملاء من التعليم الثانوي النشطين في الحركة النقابية : هل فكرتم في مستقبل التلاميذ وأنتم تواصلون الإضراب بهذا الشكل ولم تستجب الإدارة لمطالبكم المادية؟ فأجاب بالنفي، مسترسلا في تلاوة فقرة من النصوص التي تعتمد عليها نقابته، والقائلة إنه لا شأن للنقابة بغير حقوق المنخرطين المهنية! بمعنى أن جانب التكوين الذي هو محور عمل الأستاذ لا يعني النقابة في شيء باعتباره أمرا غير مهني! غريب جدا إذا تنصلت النقابات من هذا الجانب ورأت بأنه يعني غيرها ولا مسؤولية لها فيه.

– المفر : الدروس الخصوصية : في وقت مضى كانت الدروس الخصوصية لا يلجأ إليها إلا النادر من التلاميذ لسد ثغرة في درس أو لتدارك دروس بعد غياب طال بسبب مرض أو نحوه. أما اليوم فلا نكاد نجد تلميذا لا يتابع مثل هذه الدروس. والمجال لا يتسع هنا للتعقيب على هذه الظاهرة، لكنه من المعروف لدى خبراء التربية والتعليم بأنها ظاهرة تعدّ وبالا على التلميذ والتعليم بصفة عامة. فهي وبال على التحصيل العلمي لأنها تَحُول في الواقع دون أن يجتهد التلميذ بنفسه ويرقى بمستواه بناء على ما استوعبه من الدروس العادية، وتُوهِمه بأن استيعابه قد نَمَا بينما الأمر ليس كذلك. وهي  أيضا وبال على الأولياء لأن معظمهم ليس بمقدورهم تحمل هذا العبء المادي. ثم إننا لا نفشي سرا إذا ما أشرنا إلى أن الإضرابات تزيد الطلب على مثل هذه الدروس. وبطبيعة الحال فمصائب قوم عند قوم فوائد.

وهكذا، وفي الوقت الذي نرى بلدا، مثل فنلندا، يتهافت القوم من القارات الخمس على النهل من تجربته الناجحة في مجال التعليم لتوظيفها من أجل تحسين مستوى التحصيل الدراسي لدى التلميذ _ وهذا النجاح لم تبلغه فنلندا بالدروس الخصوصية وإضرابات الأساتذة وتقاعس الإدارات، بل وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل تضافر جهود هؤلاء جميعا، إدارة وأساتذة ومعلمين- نرى في بلدنا وضع التعليم وضعا مخزيًا للجميع تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى الإدارة والمعلم والأستاذ… فكلهم في الهمّ سواء. كما يتحمل بالدرجة الثانية أولياء التلاميذ وجمعياتهم العبء لعدم انتفاضتهم تنديدا بما يجري أمام أعينهم من تلاعب بمستقبل أطفالهم… وليقولوا لهؤلاء : كفانا عبثا بمصير الأجيال.

مقالات ذات صلة