الرأي

الإنسداد إلى أين؟ وإلى متى ؟

التهامي مجوري
  • 2261
  • 4

إن ما تشهد صحراؤنا هذه الأيام من أحداث ملفت للإنتباه، ويحمل من الجدية في لفت الانتباه إلى خطورة الوضع، أكثر منه مجرد احتجاج، على قضية عابرة يمكن معالجتها بشكل من الأشكال، غير الاحتجاج الجماهيري العريض، المعبر عن الاستياء العام، ولكن كبراءنا بدلا من أن يقرأوا الموضوع قراءة سياسية شاملة، استخفوا بالأمر واعتروه مجرد مغامرة غير واعية تهدف إلى رهن مستقبل الأجيال.

وما تمر به الجزائر عموما هذه الأيام 2014/2015، يشبه ما  مرت به البلاد في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، من تدهور اقتصادي وتذبذب في مستوى المعيشة، حيث نزل سعر البترول يومها، إلى مستويات دنيا لم تشهدها من قبل، وترتب عن تلك الأزمة أحداث أكتوبر 1988 الأليمة, التي خلفت ما خلفت من مآسي اجتماعية وثقافية وسياسية.

والجزائر اليوم ليست بمنآى عما وقع في سنة 1988، وما يحدث في أقصى الجنوب وقبلها في غرداية، نماذج لما يمكن أن يصيب المجتمع برمته، من حيث أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، لا سيما عندما يكون الخطاب، للمؤسسة السياسية سلطة ومعارضة، متجها إلى حماية نفسه, والبحث في سبل التمكين لها، أكثر من التفكير في إيجاد الحلول للمشكلات القائمة.

والفارق بين الواقعين، يؤكد أن الواقع اليوم أشد تأهيلا للإنفجار –لا قدر الله- من ذي قبل، ورغم أن الجزائر قد دفعت الثمن خلال سنوات التسعينيات، إلا أن الثمرة لم تكن بمستوى التضحية.

إن أحداث 1988، جاءت بعد ربع قرن من الحكم الأحادي الاستبدادي، بمشروع الانفتاح السياسي والاقتصادي، الذي أنتج دستور فبراير 1988، فغطى الانفتاح ومشروع الإصلاح، عن كل العيوب والمآسي التي خلفتها الأزمة، فلا أحد جعل من قتلى ومعوقي ومأزومي أحداث 1988، مشكلة اجتماعية أو سياسية، وإنما كان ولا يزال أن ضحايا تلك الأحداث اعتبروا عربون الانفتاح والديمقراطية، بل ربما يتشرف بعضهم أنه كان ضحية تلك الأحداث التي قلبت الطاولة على النظام.

اما اليوم فان ما يمكن أن يقع لا يفرح به أحد، ولا يتمناه أحد؛ بل لا أحد يمكن أن يساهم في إيقاعه أو منعه؛ لأن الذي سيقع سوف لن تكون له مرجعية، لا من النظام ولا من المعارضة، وإنما سوف يكون –لا قدر الله- كاستجابة لغريزة حب البقاء، وذلك لا علاقة له بالاستراتيجيات، وإرادة الإصلاح ومعارضة السلطة أو البقاء فيها؛ ولا علاقة له بما يريد الشعب ويطمح إليه؛ لأنه مجرد رد فعل على واقع بئيس.

والسبب في هذه المفارقة، ان النظام السياسي قبل سنة 1988 رغم استبداده كان متماسكا، على قيم معينة وقادرا على استبعاد خصومه وتهميشهم، ولعل أحداث 1988 هي بداية فقدان النظام القدرة على تهميش خصومه، ومع ذلك بقيت له القدرة على منع الخصوم من افتكاك المبادرة منه، والوضع الإجتماعي والسياسي شاهد على ذلك منذ سنة 1988 إلى اليوم، فلا المعارضة استطاعت تجاوز النظام وإسقاطه، ولا النظام استطاع افتكاك المبادرة من المعارضة أو همشها كما همشها من قبل، ومن ثم إرادة التغيير والإصلاح التي كانت محل إجماع بين جميع فئات الشعب ومؤسساته قد امتصت جميع القوى وتوظيفها في الحراك العام؛ بل إن المجتمع نفسه لم ينتبه إلى طبيعة النظام بقدر ما كان يعلق الآمال على صدقه في الإصلاح والتغيير، رغم ان تجربة ربع قرن 62/88، أفادت أن النظام السياسي في البلاد قد فقد الكثير من مبررات بقائه، وسقطت الكثير من شرعياته التي كانت تحفظ استمراره، شرعية حماية مكاسب الثورة، الشرعية الثورية، الوضع الإجتماعي القادر على الصبر على مظالم الإخوان، بسبب ما يعرف من مظالم الاستعمار…

أما اليوم فإن النظام السياسي لم يعد بذلك التماسك وتلك الصفات، التي من شأنها تزيده قوة وصلابة في مواجهة خصومه، فالتنابز الذي بين زموره وقواه الخفية، والتصريحات النارية التي تظهر بين الحين والآخر، لا توحي بوجود نظام متماسك على رأي واحد، وعلى فهم واحد وعلى خيار واحد. فعندما يقول سيد أحمد غزالي الذي هو واحد من لأبناء النظام، انا كنت حركي النظام، أو يقول حمروش أن النظام فيه لولبيات أو يجرؤ عمار سعداني على لمز الجنرال توفيقي بشيء لم يعهده الجزائريون، فمعنى ذلك ان طبيعة النظام كما هو اليوم يختلف عما كان عليه من قبل سنة 88.

والمجتمع الجزائري اليوم أيضا، ليس هو المجتمع الجزائري قبل سنة 88، فالذي كان يومها يغلب عليه جيل ما قبل الثورة، من الكهول والشيوخ الذين ذاقوا مرارة الاستعمار، فإنهم لا يشعرون بظلم النظام الذي “جاب الاستقلال”، وإذا ذاق هذه المرارة فإنه يصبر عليها من باب “سلطة جايرة ولا بلاد سايبة”، لا سيما أن أزمة الصائفة سنة 62، كانت تنذر بالخطر على مستقبل البلاد والثورة. اما المجتمع اليوم، فإنه بأغلبيته العظمى من جيل الاستقلال، والذين ولدوا أثناء الثورة هم اليوم شيوخ، وليست لهم القدرة على المقارنة بين مظالم الاستعمار وتجاوزات الاستقلال.

لا شك أن واقع التحولات والفتن التي يشهدها العالم العربي والاسلامي، قد يكون مانعا للمجتمع الجزائري، من التفكير في التغيير الراديكالي، ولكن بقاء الحال على ما هو عليه، واستمرار التذمر وتجاهل معاناة الناس، كل ذلك يساعد على التوتر، أكثر مما يدعو إلى الاستثقرار، ويؤهل الوضع للفوضى أكثر مما يساعده على الطمأنينة والرضى.

وكما تقول الفيزياء لكل فعل رد فعل مسا له في القوة مضاد له في الإتجاه؛ لأن المنطق عندها لا تحكمه قوانين الخوف والرجاء إنما تحكمه غريزة حب البقا وخوف الفناء.

مقالات ذات صلة