الرأي

الاستثمار في قابلية الشعوب لـ”الاستحمار”

حبيب راشدين
  • 4965
  • 21

القابلية للاستعمار مفهومٌ طرحه مالك بن نبي منتصف القرن الماضي، يفيد بأن المحتل يبقى مع مرور الزمن محتلا لفرد غير قابل للاستعمار قبل أن يستنجد بـ”المعامل الاستعماري” لخلق نموذج من الحياة والفكر والحركة، تمنحه السيطرة المعنوية والمادية على الفرد المستعمَر، فتحمله على القبول بالحدود التي يرسمها له الاستعمار، يفكر داخلها، ويرسم شخصيته طبقا لحدودها، قبل أن يتحول في مرحلة متقدمة إلى مدافع شرس، يناضل لديمومتها.

عند التحليل والمراجعة نكتشف أن “القابلية للاستعمار” التي هي “رضوخٌ داخلي عميق للاستعمار” هي ظاهرة مستدامة ملازمة للشعوب المستضعَفة، ليس فقط حيال ظاهرة الاستعمار التقليدي، بل هي حاضرة في جميع العلاقات التي تقوم بين السيد والمسود، حين يفقد المسود القدرة على التمييز بين الحالة الطارئة التي مكنت السيد من التفوق، وأجبرت المسود على الخضوع والإذعان إلى حين، وبين القبول دون تمحيص بتفوق افتراضي لجنس، أو فكر، أو ثقافة، أو تقنية، يبرر للسيد الإمعان في التعسف والاستبداد، ويسوغ للمسود التسويف حيال واجب الانعتاق بطرق المقاومة التي خبرتها الشعوب في جميع الأزمنة. 

ومع تقدير توصيف ابن نبي للظاهرة في الجزائر وفي باقي المستعمرات، فإن الشعب الجزائري لم يتوقف عن مقاومة الظاهرة عبر مؤسساته الثقافية والاجتماعية التقليدية، وتمكن خلال قرن وثلث قرن من حرمان المستعمر من توسيع ظاهرة الاستعمار لتطال الفضاءَ الثقافي والاجتماعي والروحي، وكان رفضه للتقنية الوافدة مع المحتل جزءا من رفض ظاهرة احتلال الأرض، فكان منها رفض حملات التلقيح والتطبيب في المؤسسات الاستعمارية، ولم يستسلم لمحاكاة تقاليد وعادات مجتمع المعمرين، ونجح في إفشال حملات التبشير، وحرم المستعمِر من اقتحام حصن العائلة المسلمة عبر إجماع نخبه السياسية والدينية على مطالبة المحتل بـ”الالتزام بأحكام العلمانية” رغبة منه في الدفاع عن قانون الأحوال الشخصية، وفي كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية أمثلة كثيرة عن صيغ المقاومة السلمية التي حرمت المستعمر من تثبيت سلوك “القابلية للاستعمار”.

الآن وبعد مرور قرابة ستة عقود على استعادة السيادة، نرى شرائح واسعة من العامة ومن النخب تستميت في استدعاء الأدوات الفوقية الفكرية والثقافية للقوى الغربية المهيمنة كضرورة وكخيار لا غنى عنه لتأطير مسارات بناء الدولة، وإعادة هيكلة البنية الاجتماعية، واختراق البنية التقليدية للعائلة المسلمة، والانفتاح على التقنية الغربية دون روية، وتوطين لغة المستعمِر تحت شعار كاذب اسمه “غنيمة الحرب”، فضلا عن الحملات المتواصلة على اللسان العربي، وعلى مكونات الهوية الاجتماعية والثقافية التي بنتها شعوبنا تحت مظلة الإسلام على مدار أربعة عشر قرنا من الزمن.

وعندما يقبل شاب متعلم مثل كمال داوود الجلوس على مائدة اللئام بالسفارة الفرنسية صحبة وليِّ نعمته الرئيس الفرنسي ماكرون، قبل أن يسطوا على حق الجزائريين في الترحيب برئيس دولة مسلمة كانت شريكا لنا في مقاومة حروب الاسترداد القشتالية، ثم لا يستحي من القول: “كل امرئ يدافع عمن يطعمه”، فلا بد من أن نستحضر ابن نبي لرصد عودة ظاهرة القابلية للاستعمار في حلتها الجديدة، التي تستثمر في ما ترى فيه بعض النخب “المستقورة” فرصة انتشار القابلية لـ”الاستحمار” بمعنى قابلية الشعوب لـ”الاستغفال” والانخداع بالحيل البصرية التي تريد التسويق مجددا لـ”المسخ الغربي” والتمكين لاستعمار ناعم، لا يحتاج إلى بوارج حربية ولا إلى إنزال مكلف بسيدي فرج.

مقالات ذات صلة