الرأي
الحلقة الثانية

التقارب بين السنّة والشّيعة أم تقريب السنّة إلى الشّيعة؟

سلطان بركاني
  • 4395
  • 0

رأينا في الحلقة السّابقة كيف أجمع أئمّة الإسلام وعلماء المسلمين، على اختلاف مدارسهم ومذاهبهم، على ذمّ التشيّع الباطنيّ والتّحذير منه، وقد استمرّ الأمر على هذا النّهج حتى بدأ الضّعف يدبّ في أوصال الخلافة العثمانيّة، وبدأت تظهر الدّعوات العلمانية والوطنيّة التي تجمع النّاس على اختلاف نِحلهم ومعتقداتهم تحت مظلّة الوطن، وفي هذه الظّروف ظهرت الدّعوة إلى التّقارب بين السنّة والشّيعة، دعوة ظاهرها الوحدة بين المسلمين، وباطنها التّمكين للتشيّع الباطنيّ الصفويّ في بلاد أهل السنّة وإيجاد موطئ قدم له، وقد تفطّن كثير من المتحمّسين لهذا المشروع إلى حقيقته وما يراد منه، بعد أن اصطدموا بالأفعال والممارسات التي تناقض الشّعارات والتّصريحات، واكتشفوا أنّ دعوة التّقريب يراد من خلالها تقريب أهل السنّة من المذهب الشّيعيّ، ورأوا كيف يستميت علماء الشّيعة في التمسّك بشذوذات مذهبهم ويرفضون التّنازل عن أدبياتهم التي تُسبّب الفرقة بين المسلمين، بينما يصرّون في المقابل على المطالبة بإعادة دراسة التاريخ الإسلاميّ وسير الصّحابة، بحيث يتمّ اعتماد ركام المرويات الشاذّة التي جعلوها مستندَهم في محاكمة خير جيل من هذه الأمّة.

لقد تفطّن كثير من علماء أهل السنّة إلى حقيقة دعوة التّقريب، فطلّقوها بالثّلاث، ومن هؤلاء: الدكتور محمّد البهي، الشيخ عبد اللطيف محمّد السبكي، الشيخ محمّد عرفة، الشيخ طه محمّد الساكت، وقبلهم الإمام محمّد عبده مفتي الديار المصرية في زمانه، الذي سعى سعيا حثيثا إلى التّقارب مع الشّيعة، لكنّه لم يجد لدعوته أثرا بينهم، فقال فيهم أشدّ من مقالة ابن تيمية، كما يروي ذلك تلميذه محمد رشيد رضا في كتابهتاريخ الشيخ محمد عبده؛ محمّد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وأحد رجال الإصلاح الإسلامي، الذي سعى هو الآخر سعيا حثيثا في سبيل التقريب بين السنّة والشيعة لمدّة ثلث قرن، لكنّه اصطدم أخيرا بحقيقة أنّ التقارب الذي يريده الشيعة هو تشييع أهل السنّة، فلم يجد بدّا من الردّ على الشّيعة وانتقاد عقائدهم وخرافاتهم. (مجلة المنار: 31/ 292)، وقد نقل في مجلّتهالمناركلمةً لأحد علمائهم يُدعى عبد الحسين نور الدين العاملي، كشف فيها دِثار التقية وأبان عن حقيقة موقف القوم من الوحدة ودعوة التّقريب، حيث قال: “ودع عنك قول بعضهم: دعوا البحث فيما يتعلق بالدّين والمذهب، وهلمّ إلى التعاون على توحيد الكلمة وجمع الأمر قبالة المستعمر. فإنّ ذلك لغو من القول وخطل من الرّأي، وكأنّها مقالة من لا يرى الإسلام دينا ولا يرى أنّ هناك حياةً أخرى خالدة غير هذه الحياة، وإنّما يرى الإسلام رابطة قومية وجامعة سياسية، فهو يدعو إليها ويحضّ عليها” (المنار: 32/ 61)، هذه الكلمة جعلت الإمام محمّد رشيد رضا يعقّب بعبارات شديدة في حقّ الشّيعة وتاريخهم (المنار: 32/ 72).

وممّن كانت له تجربة مريرة مع دعوة التّقريب، الشيخ موسى جار الله، الذي زار بلدانًا عديدة في العالم الإسلامي يحمل همّ وحدة الأمّة المسلمة، ودرس مصادر الشيعة، وعاش بينهم فترة من الزّمن، فوجد أنّ عقائدهم وأدبياتهم التي تترجم إلى ممارسات في الواقع، تخالف أصول الدّين، وتأباها الفطر السليمة والعقول السوية، ووصل إلى نتيجة لخّصها بقوله: “نقدُ عقائد الشّيعة هو أول مرحلة من تأليف قلوب الأمّة، لا تأليف من دونها” (الوشيعة في نقد عقائد الشيعة: ص17). 

ومن جهته، كان الدّكتور مصطفى السّباعي، عميد كلية الشّريعة في دمشق، من المتحمّسين لفكرة التّقريب، وأمضى سنوات من حياته يدعو إليها، لكنّه هو الآخر اصطدم بالحقيقة المرّة التي أعلنها في كتابهالسنّة النبويّة ومكانتها في التّشريع، ص10، قائلا: “وأرى الآن نفس الموقف من فريق دعاة التّقريب من علماء الشّيعة؛ إذ هم بينما يقيمون لهذه الدّعوة الدّور وينشئون المجلاّت في القاهرة ويستكتبون فريقا من علماء الأزهر لهذه الغاية، لم نر أثرا لهم في الدّعوة لهذا التّقارب بين علماء الشّيعة في العراق وإيران وغيرهما، فلا يزال القوم مصرّين على ما في كتبهم من ذلك الطّعن الجارح والتّصوير المكذوب لما كان بين الصّحابة من خلاف، كأنّ المقصود من دعوة التّقريب هي تقريب أهل السنّة إلى مذهب الشّيعة لا تقريب المذهبين كلّ منهما إلى الآخر“. 

التّجربة ذاتها خاضها الدّكتور علي السّالوس، الذي اصطدم بما اصطدم به من سبقوه، وصوّر ذلك في كتابهفقه الشّيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعةبقوله: “وعندما الْتقيت بعض الشّيعة في الكويت وزرت مواطن تجمّعهم في العراق وجدت صورة لا تبشّر بخير في مجال التّقريب، بل على العكس من ذلك فعندما نظرت في الكثير من كتبهم المتداولة بينهم إلى جانب ما قرأت أثناء البحث، فكلّها تعصّب مقيت للمذهب وكلّ ما يتعلّق به من المغالاة والتّحريف في كثير من الحالات“. 

ومن جهته، خاض الأستاذ سعيد حوى غمار دعوة التّقريب، وكان من المتحمّسين لها، قبل أن يكتشف الحقيقة ويؤلّف كتابه المشهورالخمينية شذوذ في العقائد شذوذ في المواقف، ويقول في مقدّمته: “وعندما انتصر الخميني ظنّ المخلصون في هذه الأمّة أنّ الخمينيّة إرجاع للأمر إلى نصابه في حبّ آل بيت رسول الله، وتحرير للتشيّع من العقائد الزّائفة والمواقف الخائنة، خاصّة وأنّ الخميني أعلن في الأيام الأولى من انتصاره أنّ ثورته إسلامية وليست مذهبيّة، وأنّ ثورته لصالح المستضعفين ولصالح تحرير شعوب الأمّة الإسلاميّة عامّة ولصالح تحرير فلسطين خاصة. ثم بدأت الأمور تتكشّف للمخلصين، فإذا بالخميني هذا يتبنّى كلّ العقائد الشاذّة للتشيّع عبر التاريخ، وإذا بالمواقف الخائنة للشّذوذ الشّيعي تظهر بالخميني والخمينية، فكانت نكسة كبيرة وخيبة أمل خطيرة“.

لقد اكتشف هؤلاء جميعا، وغيرُهم، أنّ ما يفرّق السنّة والشّيعة أكثر ممّا يجمعهم، ووقفوا على ممارسات الشّيعة وخبروا واقعهم، ونظروا في مصادرهم ومراجعهم، ووجدوا أنْ لا شيء يجمع الطّرفين غير بعض المسميات التي تختلف مضامينها عند الجانبين، فالسنّة النبويّة التي جمعها أهل السنّة في الصحيحين والسّنن والمسانيد، ورويت عن طريق الصّحابة، يرفضها الشّيعة لحساب مصادر خاصّة هي: الكافي والتّهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه، والوسائل ومستدرك الوسائل والوافي وبحار الأنوار، جُمعت مادّتها من كتب كانت في بداياتها موضع تداول سريّ، لِما تحويه من عقائد موغلة في الغلوّ والانحراف، بُنيت على روايات لا يشكّ عاقل في كذب نسبتها إلى أئمّة وأعلام أهل البيت رضي الله عنهم، وحتى القرآن الكريم، فإنّ الشّيعة وبغضّ النّظر عن موقف بعض أساطينهم من حفظه وكماله، فإنّهم يرفضون التّحاكم إلى تفاسيره وأسباب نزوله التي جُمعت في مصادر أهل السنّة، بل يرفضون التّحاكم إلى سياق الآيات وإلى اللّسان العربيّ، ويصرّون على اعتماد تأويلات باطنية ممجوجة تُزاوج بين الغلوّ الفاحش في أئمّة أهل البيت، وبين الطّعن اللاّذع في الصّحابة الذين تُنزّل عليهم كثير من آيات الكفر والشّرك والنّفاق!

يتبع بإذن الله

مقالات ذات صلة