-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الثقافة في الجزائر بين الإدارة والسياسة

التهامي مجوري
  • 2446
  • 0
الثقافة في الجزائر بين الإدارة والسياسة

لا أقصد بهذا العنوان التجاذب بين الإدارة والسياسة لواقع الثقافة في الجزائر، وإنما أقصد ما أشرت إليه في مقال سابق، من أن هناك فرق بين إدارة المشكلة الثقافية، وبين السياسة الثقافية في المجتع ومؤسساته.

فإدارة الثقافة هي مؤسسات ومسؤولين وهيئات ممثلة لقطاع الثقافة، من وزارة ومديريات ومكتبات ومؤسسات للنشر ومديرين ورؤسات مصالح.. إلخ، أما السياسة الثقافية فهي ما يريد المجتمع الوصول إليه وترسيخه بمؤسساته من قيم مادية ومعنوية، بواسطة منظوماته التربوية والإعلامية والدينية والسياسية.

وما سارت عليه الجزائر خلال سنوات الاستقلال، هو إخصاعها السياسة الثقافية للإدارة، ولا ندري أهي طبيعة النظام الأحادي الذي يعتمد التسيير الإداري في كل شيء، أم هو ضعف التقدير لأهمية السياسية الثقافية في بناء الدولة.

ومهما تكن الإجابة، فنحن الآن نتكلم عن تجربة مرت بها البلاد، وليس لنا من الأمر إلا الملاحظة وتقييم المرحلة بما لها وما عليها.

إن من المسلمات في تقديري، أن الإدارة إذا قدمت على السياسة في الأمور كلها، فإنها لا تثمر بالضرورة ما يهدف إليه المجتمع؛ لأن العمل الإداري بطبيعته الروتينية يقتل الإبداع وروح النضال وعلو الهمة، وعندما يتعلق الأمر بالسياسة الثقافية، فأنه يكون أكثر ضررا وأشد ألما، همة، لأن طبيعة السياسة الثقافية ألصق بالابداع وروح النضال وعلو الهمة، وذلك هو جوهر الطموح إلى صياغة مجتمع جامع لأفراده منسجم مع نفسه ومع خيارات النظام السياسي الذي يحكمه والمحيط الإقليمي والدولي.

والحاصل في بلادنا أن الإدارة الثقافية، لم تسند إلى إداريين محترفين تموت الثقافة على أيديهم لطبيعة مهمتهم الإدارية الجافة، وإنما أسندت إلى مجموعات من بقايا الحزب الشيوعي “مأدلجين”، استولوا على مفاصل مؤسساتها، ووجهوا الحياة الثقافية، وجهة لا علاقة لها بالبناء الثقافي الجزائري ولا يموروثه الأصيل، قلم يقتلوا الثقافة، وإنما لوثوها بما ليس منها، ولبسوا عليها بأباطيل لا تمت لها بصلة، فنية او فكرية أو أدبية أو دينية، فأضحت كأغنية في مأتم او صوت نائحة في عرس.

لا نشك في وجود بعض الوطنيين في المؤسسات الثقافية، كان لهم من الحرص على الثوابت الوطنية ما لكل غيور على الجزائر، ولكن وجودهم كان شكليا لا أثر له في الحياة الثقافية الوطنية، ومن يتابع الانتاج الثقافي خلال العقدين 1962/1982، لا يجد أثرا كبيرا للثقافة الوطنية إلا فيما كانت تصدره وزارة الأوقاف او الشؤون الدينية بعد ذلك، في المعرفة والقبس والأصالة.. اما ما تنشره الشركة الوطنية للنشر والإشهار من قصص وروايات وشعر ودراسات أدبية، وفي منشورات آمال والوحدة وغيرها من منشورات المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب، فلا يخلو نص منها من رائحة “الرفاق”، ولمن أراد الرجوع إلى تلك المرحلة ليطلع على الأسماء التي ينشر لها وأسماء القائمين على القطاع الثقافي، وعلى طبيعة النصوص التي تنشر ويروج لها يومها، يتأكد مما أقول.

وهذا الخطاب وطبيعة هذا الاستيلاء على القطاع لم يكن ليستمر ولو لسنة واحدة لو لم يكن محميا من قبل السلطة السياسية في البلاد، حيث كان هذا الخطاب يسوق للتوجه الثوري في البلاد، مستندا في ذلك على تمجيد التوجه الثوري، وتقديس الخط الاشتراكي الذي تبناه النظام السياسي بعد الاستقلال على حساب الواقع الاجتماعي وحاجاته بعد الثورة، حيث لم يراع في هذا القطاع حاجة المحتمع بعد الثورة التي تختلف عن أيام الثورة وقبلها، ولم يراع توجه الكفاءات والإطارات الوطنية المنتجة للعمل الثقافي بتنوعاتها وروافدها، التي اندمجت في الثورة استجابة لضرورة وحدتها، ولكنها تريد العودة إلى طبيعتها التي كانت عليها، وذلك بحشر الجميع في بوتقة واحدة في مجال أو مجالات محددة لا تعجب إلا “الرفاق”، من مسرح وإنتاج مذهبي متعصب، ومهرجانات فلكلورية…، وإنتاج سنمائي أقل ما يقال فيه أنه ضعيف لا يرتقي إلى مستوى الجزائر الثقافي الذي يصورها ويصور بكولاتها.

عاشت الثقافة خلال سنوات الانغلاق – 1962/1982، مرحلة يمكن ان نطلق عليها مرحلة “الفقر الثقافي”، مثلما عات الفقر في مجالات أخرى، وهي مرحلة حاولت فيها الإدارة الثقافية للبلاد حصر النقاشات في مجالات لا ناقة للاهتمامات الوطنية الجادة فيها ولا جمل، وإنما اوهام تراكمت فأضحت حقيقة كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء.

فالمنظومة التربوية التي من مهامها صياغة المجتمع من جديد وفق ثوابت وطنية راسخة، ذهبت الإدارة الثقافية تسوقها وكأنها معركة بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، أو بين الأصول الأمازيغية والأصول العربية، أو بين الثوريين والإصلاحيين، أو بين الاسلاميين والحداثيين…، في حين ان السياسة الثقافية، كان ينبغي يومها أن تنصرف إلى التفكير في كيفية استمرار الدولة المستقلة حديثا.. ما هي مقومات ثقافتها؟ ما موقفها من الاستعمار القديم وتجديد لبوسه؟ وكيفية مقاومته بعد اندحاره؟ ما صيغ البناء الوطني الجديدة بعد ما وضع الشعب البندقية؟

وبذلك التركيز القاصر على تلك الأوهام من النقاشات، انحرف الجميع بالسياسة الثقافية، إلى مناقشات لا قيمة لها حقيقية، وإنما هي من قبيل جلب الرضا عن النفس، فالوطني الذي استدرج إلى معركة وانتصر فيها للغة العربية على مقابل الفرنسية يشعر أنه أدى ما عليه، في حين أن انشفاله بالدفاع عن اللغة، التي هي تحصيل حاصل، ترك مضامين أخرى تمكنت من الشعب الجزائري، لا علاقة لها بالوطنية، بل كرست قيما ومفاهيم تتعلق بالثورة والثوار ورجال السياسة، ادت بالشباب الذي لم يعش تلك المرحلة، يلعن اليوم الذي تعرف فيه على الثورة والثوار والشهداء وغيرهم من السياسيين والمثقفين.. هل يصدق المرء أن شباب الجزائر يرفع شعار “التاريخ في المزبلة”؟ أيعقل في مجتمع أن يلعن أبناؤه ثواره ومجاهديه؟ هل يمكن لجزائري ولد قبل الثورة ان يأتي فيه يوم يتمنى فيه الجزائري بقاء الاستعمار؟

بكل أسف كل ذلك حصل في جيل ما بعد الاستقلال؛ لأن السياسة الثقافية في البلاد، لم يكن يعنيها غير تمجيد النظام السياسي، وإدارة الثقافة لم تسوق لغير ذلك، ليس حبا واستجابة للنظام، وإنما –لطبيعة المديرين لها- انتقاما من خصوم لهم في هذه الثورة التي تريد أن تعيد المجتمع الجزائري إلى أصوله العربية الإسلامية.

بعد تينك العشريتين 1962/1982، جاء الانفتاح عهد الثقافي والفني، وفتحت على الجزائر أبواب جهنم بفن الراي الماجن، وإفلاس مؤسسات إدارة الثقافة، فأطلق العنان لكل ما سقط من الْكَلِمِ والذوق الفني، وقسمت المؤسسات وبيع الكتاب من مخزونات المؤسسة الوطنية للكتاب بالدينار الرمزي، وأذكر يومها ان المؤسسة الوطنية للكتاب التي هي فرع من فروع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وقعت في مأزق تجاري وعجز عن تسويق بضاعتها الفالسة، وأرادت ان تنهض تجاريا، وكانت يومها قد نشرت كتابا للشيخ أحمد سحنون بعنوان “دراسات إسلامية” ونفذ الكتاب من السوق، ولما كان القوم يناقشون البحث في سبيل النهوض بالمؤسسة، قال أحدهم فلنعيد طبع كتاب الشيخ سجنون، فعلق عليه زميل له بقوله “الفيس طالع وانت زيد عليه”،  رغم أن العقد الذي بين المؤسسة والسيخ سحنون رحمه الله، كانت يتضمن “مدة خمس سنوات، تكون الطبعة التالية إثر نفاذ كل طبعة”، ومع ذلك لم يرد الرفاق للكتاب ان ينتشر أكثر، حتى لا يساهموا في مساندة التيار الإسلامي، الممثل في شخص الشيخ سحنون وحزب الفيس فيما بعد، أما رواية “الرعن” لرشيد بوجدرة فقد طبع منها آلاف النسخ، ولكنها لبذاءة ما فيها من كلام وانحطاط في الأخلاق فقد بيعت بالدينار الرمزي أيام عرض مخزونات المؤسسة الوطنية للكتاب للبيع في مؤسسات “لاسنيد”.

وفي آخر هذا المقال لا اكاد أجد فضيلة لتلك المرحلة في حياتنا الثقافية، إلا ما كان من التعليم المجاني، وما كنت أقرؤه من مقاومات تشبه الأنين تحت الركام، من مقالات ابن الحكيم وميم دين وابن المقفع وغيرهم من القليل الذين أبقوا على جذوة الخطاب في ثقافتنا الوطنية، وكذلك سُنَّةَ تخفيض سعر الكتاب في المعرض الدولي الذي كانت تنظمه الدولة الجزائرية في تلك السنوات، وكان الفرنسييون يأتون من فرنسا ليشتروا مطبوعاتهم التي يريدون، بسعر الجزار المنخفض، الذي قد يضل إلى نصف القيمة، لا سيما عندما كان الدينار ّبشلاغمه”.

وإذا سلمنا للنظام السياسي بضرورة الاهتمام بالخط الاشتراكي تثمينا لخياراته، فإن تمجيد الخط الثوري بعد الاستقلال في مرجلة بناء المجتمع يعد خطأ منهجيا؛ لأن المرحلة مرحلة بناء مجتمع في جو من السلم والتآلف والتوافق، ثم إن الثورة في حياة المجتمع تمثل الاستثناء، أي أن ما عجز عنه المجتع عنه سلما  يحق للمجتمع أن يحققه بالثورة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • نور

    لا نستطيع اغفال العامل الثقافي في بناء الدولة فالافكار يمكن ان تبني حضارات وتطور امما وتنتج خبرات