-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجريمة.. ولا عقاب

عمار يزلي
  • 490
  • 0
الجريمة.. ولا عقاب

عندما كتب “دويستوفسكي” روايته “الجريمة والعقاب” قبل أكثر من قرنين ونصف قرن، لم يكن يعتقد أن العالم والأخلاق والعقيدة العلمانية التي نمت وتغذّت على أفكار قرن الأنوار، والرأسمالية الناشئة، التي تحوَّلت اليوم إلى إمبراطورية عالمية، ركبت صهوة شعارها “الحرية والعدالة والأخوّة” منذ الثورة الفرنسية في 1789م، لم يكن دويستوفسكي، يعرف أن “الإمبريالية التي هي أعلى مراحل الرأسمالية” كما تذكُرها الأدبيات الماركسية بعده، سيأتي يومٌ وتنسلخ من جلد قيم عصر الأنوار وشعار الثالوث، وتصبح الجريمة بلا عقاب. إمبراطورياتٌ استعمارية مجرمة في حق الإنسان والإنسانية والقيم، حتى قيم الثورة الفرنسية نفسها التي شوّهت هي الأخرى في ظل الليبرالية الجديدة اليوم، بدفاعها عن حقوق الحيوان والشواذ وتنسى حقوق المظلومين، لا بل أكثر من ذلك، هي من تعمل على قهر المظلوم ونزع حتى الإنسانية عنهم كبشر ليصبحوا مجرّد  أرقام، أشياء، لا بل أكثر من ذلك، أقل من ذلك: كائنات غير بشرية.

نشهد هذه الأيام مع جرائم الاحتلال التي فاقت الخيال ولم يسبق لها مثيل ولا مثال، ما هو أحيانا ألعن من جرائم المحتل المغتصِب، وهو التحريض الذي تجاوز الآن الصمت.. التحريض حتى من كيانات تدّعي أنها عربية وإسلامية وعلى منبر مجلس الأمن. تحريض صار يدافع عن الحرب والجريمة والقتل الوحشي بلا حدود.

نشهد، مع ارتفاع وتيرة الجرم المشهود، بتغطية غربية بل وبمساعدة في غرفة عمليات مشتركة، مع الأمريكان، يبدو أنهم هم من يديرون الحرب على شعبنا الأعزل وعلى الأطفال بنفسها وسلاحها وخططها.. وبمعول الاحتلال.. نشهد فظائع إعلامية لم يسبق لها مثيل، تتماشى وفظائع الجرائم على الأرض المحروقة والمباني التي سُوِّيت بالأرض فوق رؤوس أهلها وعلى رؤوس الأشهاد من الإعلام الذي لم يسلم من البطش تخويفا وانتقاما، انتقام الجبان الخائف من مواجهة الرجال.

هذه الصور تُركَّب وتُفبرَك، وهذه عناوين تُجتَزأ، وتسكت عن الكبائر وتتحدَّث عن الصغائر، وهذه عبارات تُطمس من القاموس الإعلامي مثل “المستوطنات” التي تحوَّلت في الإعلام الغربي والأمريكي والصهيوني إلى “أحياء”، وهذا لعبٌ على الوعي الجمعي وعلى المفردات والمصطلحات، معروفة عند كل الحضارات الغربية التي بنت أمجادها على القتل والاحتلال وسفك الدماء.

هذه فرنسا، مهد تاريخ 1789م، تاريخ قيم “الفولتيرية”، تقوم بإبادة شعوب قارّةٍ بأكملها، تقتيلا ونفيا وسجنا، وتصفهم بأبشع النعوت، كما يصف اليوم وزير حرب الكيان، قاتل الأطفال والنساء، عندما يفتخر أنه “سيمنع عن غزّة الماء والوقود والكهرباء والأكل كونهم يتعاملون مع كائنات غير بشرية”.

كذلك دأب الاستعمار، كما يصفهم “فرانز فانون” في “المعذَّبون في الأرض”. هكذا أيضا، كان الأدباء الفرنسيون خلال المراحل الأولى لاحتلالهم للجزائر، يصوِّرون الجزائري على أنه “يملك ذيلا يخفيه في سرواله العربي”، وهذا ما أشار إليه شاهد من أهلها، الناقد الفرنسي “جان ديجو”، لأنهم بالفعل كانوا يتصورون أن كل من ليس من جلدتهم في هذه القارة، هو كائن غير بشري، متوحش، لهذا كانوا يتحدثون على أنهم “أهل الحضارة وجاءوا لتحضير شعوبنا المتوحشة “الباربار”. ثم ها هو إعلامهم خلال الثورة التحريرية يلعب على التشويه العنصري البغيض فيشبِّهون الشهيد المجاهد بالحيوان عندما يتحدثون عن “القضاء على كذا إرهابي” باستعمال مصطلح.. (abattus)، التي لا تقال إلا عن قتل الحيوان، فيما قتلاهم هم “قتلى” “tués”. أو يتحدثون عن “جثث” (cadavres) المجاهدين، التي لا تقال في لغتهم سوى عن الحيوانات، فيما هم يملكون “جثامين” (des corps)، وهكذا دواليك..

هذا المحتل اليوم، وهذا هو الجرم يمشي في الدم، فالمستعمرون ملة واحدة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!