-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائر في وجدان الموريتانيين

الجزائر في وجدان الموريتانيين

يؤدي فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني هذه الأيام زيارة رسمية لجمهورية الجزائر الشقيقة بدعوة كريمة من أخيه فخامة الرئيس عبد المجيد تبون تتنزل في إطار حرص القائدين على تعزيز العلاقات الأخوية الراسخة بين موريتانيا والجزائر، واستجابة لدواعي الأخوّة الصادقة وروابط الدم والدين والقربى والجوار والمصير المشترك.

وهي مناسبة لاستعراض صفحات من تاريخنا المشترك، واستحضار صورة الجزائر المشرقة في المخيال الموريتاني، والاعتزاز بتاريخها المجيد وذكرياته الماثلة في الوجدان العربي والإسلامي ولدى أحرار العالم  يوم توِّج بثورة خالدة، كانت امتدادا لنضالات الجزائريين من أيام الأمير عبد القادر مرورا بأولاد سيد الشيخ والمقراني، والشيخ الحداد، وبومعزة بوزيان، والزعاطشة، وملحمة 8 مايو، ونضالات نجم شمال إفريقيا، وجمعية العلماء المسلمين، واللجنة الثورية للوحدة والعمل، وغيرها من الفعاليات النضالية وصولا إلى قيام جبهة التحرير الوطني التي كان لها شرف انتزاع استقلال الجزائر ممهورا بدماء الشهداء في الخامس من  يوليو 1962.

ولعلّ من محاسن الصدف أن تتزامن هذه الزيارة التاريخية مع التحولات الكبرى التي تشهدها موريتانيا في عهد فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، ومع تباشير مرحلة جديدة ينعم فيها الشعب الموريتاني بالعدالة الاجتماعية والأمن والسكينة والاجماع الوطني في ظل دولة المؤسسات الضامنة لحقوق المواطنين وكرامتهم طبقا للرؤية المتبصرة لفخامته، وتتويجا لمضامين خطابه في مدائن التراث، ذلك الخطاب الذي يعدّ بحق قطيعة مع ماضي الغبن وعصور الاتكالية، وتتويجا لعهد جديد عنوانه البناء والنماء، كما جاء في كلمة رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الأخ سيد محمد ولد الطالب أعمر أمام حشود المناضلين في مهرجان الإنصاف يوم السبت 25 دجنبر 2021.

إن زيارة فخامة رئيس الجمهورية المورتانية للجزائر اليوم، وتلك التي سيقوم بها فخامة الرئيس الجزائري لموريتانيا لاحقا، هي بلاشك تعبير صادق عن إرادة القائدين المشتركة في تعزيز وتطوير العلاقات الثنائية إلى المديات التي يطمح إليها البَلدان سعيا إلى ازدهار المنطقة واستقرارها ورفاه شعوبها وتحقيق رهانات التنمية المستدامة.

وإننا، إذ ننوّه بالجهود الجزائرية المقدرة في خدمة الأمن والتنمية في المنطقة، وأياديها البيضاء في القارة الإفريقية ومنطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، ونبارك سعيها اليوم لمواصلة ذلك المسار وفاءً لدماء الشهداء، وإدراكا منها لحجم التحديات الراهنة لنستذكر، بكل اعتزاز، أمثلة من النضال المشترك للشعبين الموريتاني والجزائري خلال الحقبة الاستعمارية وبعد الاستقلال.

لقد حظيت الثورة الجزائرية بدعم رسمي وشعبي كبيرين في موريتانيا منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، على الأقل، وكانت القضية الجزائرية واحدة من عناوين الإجماع الوطني لدى النخبة الموريتانية على اختلاف مشاربها وتباين رؤاها، ومن مظاهر ذلك الدعم:

– تسيير بعض القبائل الموريتانية لقوافل التموين على ظهور الجمال إلى الثوار الجزائريين المحاصَرين في الجبال والمساهمة في نقل السلاح عبر الصحراء بعد تعذر نقل الأسلحة بواسطة البحر في منتصف الخمسينات من القرن العشرين؛

– توفير الحاضنات الشعبية والفضاءات القبلية الآمنة للثوار الجزائريين في مجاهيل الصحراء؛

– التستر على حركة المقاومين المطارَدين من طرف القوات الفرنسية، وتوفير الأدلاء الماهرين بأسرار الصحراء؛

– مشاركة بعض الشباب الموريتانيين في المهجر في الانخراط في الثورة الجزائرية إيمانا منهم بعدالة القضية ووحدة المصير وقناعة بأن الهدف واحد، والعدو واحد في كل من موريتانيا والجزائر، وقد شغل بعض هؤلاء الشباب مناصب هامة في التنظيمات الثورية المنبثقة عن جبهة التحرير الوطني، وتعززت تلك الصلات في مرحلة لاحقة ببعض المصاهرات في شنقيط وغيرها من الحواضر التاريخية المصاقبة لبلاد الجزائر مما عزز عوامل الوصل الاجتماعي بين الشعبين الشقيقين.

– استلهام الحركة الوطنية الموريتانية من تراث ونضال الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الإبراهيمي وغيرهما من قادة جمعية العلماء المسلمين، وتفاعلها المباشر مع مكتب المغرب العربي في القاهرة لاحقا مما ولّد شعورا قويا ظل يتعزز لدى الشباب الموريتاني بأواصر الوحدة والقربى،  وفي ذلك يقول يعقوب بن أبي مدين من قصيدة له طويلة في هذا الصدد واصفا خصال الجزائريين:

قوم زهت أخلاقهم وطباعهم     فكأنها المكنون في الأصداف

إنا هنا وهناك شعب واحد       لافرق في العادات والأعراف؛

– رفض موريتانيا للمشروع الفرنسي المعروف بـ”الأقاليم الصحراوية” الذي كان من مراميه نهب الثروات المكتشَفة في المنطقة وغرز مخرز في خاصرة الثورة الجزائرية، وقد حظي قرار الرفض هذا بإجماع القيادات القبلية والقوى الوطنية الشابة الممثلة في مؤتمر ألاك1958؛

– تمسك موريتانيا المبدئي باستقلال الجزائر وحقها في الحرية والكرامة، في وقت كانت بلادُنا تعاني من وطأة الاستعمار الفرنسي، ومن جفاء أغلب الأشقاء العرب، وفي هذا الظرف بالذات أعلن الرئيس المختار ولد داداه في خطاب له سنة 1960 “أن موريتانيا شعبا وحكومة تساند الجزائر الشقيقة في نضالها لنيل الحرية والاستقلال”، وهو موقف أثار حفيظة الجنرال ديغول حيث عدّه “غير ودي” تجاه فرنسا فأرسل في عتاب الرئيس المختار قائلا: «إنك تضغط على باب مفتوح، فنحن من يقرر مصير الجزائر ولاداعي لتذكيرنا بذلك كل مرة”؛ والواقع أن شعب الجزائر العظيم هو من فرض ذلك المصير بدماء الشهداء ولم تقرره فرنسا كما زعم الجنرال ديغول.

– الصلات المباشرة التي أقامها وفد القضاة الموريتانيين المتدربين بتونس مع الثورة الجزائرية عن طريق الشيخ نعيم النعيمي مطلع الستينيات، إذ كانوا في مقدمة الحشود التي استقبلت قادة الثورة وهم يرفعون أعلام موريتانيا والجزائر ويرددون مع الجموع قسم الثورة الجزائرية:

قسما بالنازلات الماحقات     والدماء الزاكيات الطاهرات

والبنود اللامعات الخافقات   في الجبال الشامخات الشاهقات

نحن ثرنا فحياة أو ممات    وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.

– مشاركة وفد شبابي موريتاني في الذكرى الأولى للثورة الجزائرية ولقائهم بقيادة جبهة التحرير الوطنية وبالرئيس أحمد بن بله، وحضورهم فعاليات عيد الثورة على أنغام الموسيقى الوطنية والقصائد الثورية من ديوان اللهب المقدس لشاعر الثورة مفدي زكريا في لحظة مفعمة بالشموخ والكبرياء المباح حين يقول:

بوركت تربا ضم مليون خالدٍ       كأنّك في أرواحهم تتوقــد

ويذكر الوفد المذكور أن هذا الموقف ترك في نفسه أثرا كبيرا وحبا صادقا للجزائر وثورتها، فعاد يحمل في حقائبه أرشيفها من القصائد المغناة ومن تاريخها وتراثها وأهداه للإذاعة الموريتانية التي كانت يومها على فترة من الإنتاج الإعلامي.

لقدكانت الجزائر المستقلة وفية لأشقائها في موريتانيا فقد ساندتهم بقوة في المحافل الدولية ووفرت لهم العون السخي في أصعب الظروف ومن أمثلة ذلك:

– الدعم السياسي والدبلوماسي: إبَّان رئاسة الجزائر لمجلس الجامعة العربية سنة 1973، إذ ساهمت بقوة في انضمام موريتانيا إلى الجامعة أثناء انعقاد مجلس الرئاسة وليس في اجتماع وزراء الخارجية كما جرى به العرف الدبلوماسي؛

– الدعم الاقتصادي والفني: إذ ساهمت الجزائر في دراسة تمويل ميناء نواكشوط بأكثر من 250 مليون فرنك، كما موّلت العديد من المنشئات من قبيل مستشفى ألاك ومصفاة انواذيبو وشركات الصيد البحري والنقل والغاز، وألغت ديونها على موريتانيا البالغة 250 مليون دولار، وكوّنت آلاف الأطر الموريتانية العليا في مجال التسيير الاقتصادي والمالي واستضافت أكبر جالية طلابية موريتانية؛

حظيت الثورة الجزائرية بدعم رسمي وشعبي كبيرين في موريتانيا منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، على الأقل، وكانت القضية الجزائرية واحدة من عناوين الإجماع الوطني لدى النخبة الموريتانية على اختلاف مشاربها وتباين رؤاها، ومن مظاهر ذلك الدعم تسيير بعض القبائل الموريتانية لقوافل التموين على ظهور الجمال إلى الثوار الجزائريين المحاصَرين في الجبال والمساهمة في نقل السلاح عبر الصحراء بعد تعذر نقل الأسلحة بواسطة البحر في منتصف الخمسينات من القرن العشرين.

– يعترف الرئيس المختار في مذكراته بالدور المحوري للجزائر في دعم القرارات السيادية التي اتخذها في السبعينيات والمتعلقة بصك العملة الوطنية الموريتانية في الجزائر وبقرار التأميم الذي كان محفوفا بالمخاطر، ويومها كان الرئيس هواري بومدين يتابع الأوضاع باهتمام بالغ، وكانت الجزائر مصممة على توفير الدعم العسكري لموريتانيا في مواجهة خطر تدخّل فرنسي محتمل لإجهاض قرار التأميم؛

ويخلص الرئيس المختار في مذكراته قائلا: “لقد أظهرت الجزائر كثيرا من الاستعداد والرغبة في مساعدتنا في مرحلة حاسمة من نضالنا بروح أخويّة وبتجرُّدٍ ملحوظ مما ترك أثرا عميقا في نفسي وأعتبر أن لها دينا كبيرا عليّ وعلى بلادي”.

– خلال الأحداث المؤسفة التي شهدتها سنة 1989، وقفت الجزائر بقوة إلى جانب موريتانيا ووفرت جسرا جويا لنقل الجالية الموريتانية، مما ترك أثرا حسنا وشعورا بالاعتزاز في ربوع موريتانيا بهذا الموقف الأخوي الصادق؛

شارك بعض الشباب الموريتانيين في المهجر في الانخراط في الثورة الجزائرية إيمانا منهم بعدالة القضية ووحدة المصير وقناعة بأن الهدف واحد، والعدو واحد في كل من موريتانيا والجزائر، وقد شغل بعض هؤلاء الشباب مناصب هامة في التنظيمات الثورية المنبثقة عن جبهة التحرير الوطني، وتعززت تلك الصلات في مرحلة لاحقة ببعض المصاهرات في شنقيط وغيرها من الحواضر التاريخية.

ولاشك أن الزيارة الرسمية التي يؤديها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني هذه الأيام للجزائر تعدّ دليلا قاطعا على عمق العلاقات بين البلدين الشقيقين وعلى ضرورة تفعيلها، وهو ما يبدو الآن أكثر إلحاحا في سياق التحدِّيات التنموية والأمنية الراهنة في منطقة الساحل والصحراء، وتمثّل المقاربة الموريتانية في مواجهة الإرهاب التي حظيت بإجماع وطني وإشادة دولية واحدة من أهم مرتكزات العلاقات الموريتانية الجزائرية، إذ كانت الشقيقة الجزائر أول من اكتوى بنار الإرهاب في العشرية السوداء خلال تسعينيات القرن العشرين.

تمسكت موريتانيا المبدئي باستقلال الجزائر وحقها في الحرية والكرامة، في وقت كانت بلادُنا تعاني من وطأة الاستعمار الفرنسي، ومن جفاء أغلب الأشقاء العرب، وفي هذا الظرف بالذات أعلن الرئيس المختار ولد داداه في خطاب له سنة 1960 “أن موريتانيا شعبا وحكومة تساند الجزائر الشقيقة في نضالها لنيل الحرية والاستقلال”، وهو موقف أثار حفيظة الجنرال ديغول حيث عدّه “غير ودي” تجاه فرنسا.

وخلاصة القول إن استثمار العلاقات التاريخية بين موريتانيا والجزائر وتعزيزها بجهود الدبلوماسية الثقافية، ومدِّ جسور التواصل بين الشعبين، وربط البلدين بطريق دولي سيّار تنسابُ عبره البضائعُ ورؤوس الأموال والاستثمارات، سيساهم، بدون شك، في الجهود المشتركة لمواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة، وسيشكّل أساسا متينا للتعاون المغاربي، ودفعا قويا للعمل العربي- الإفريقي المشترك.

تحية للجزائر الشقيقة، لقد كانت، بحقّ، وما تزال، قلعة للثوار وسندا قويا لحركات التحرر والمقاومة الإفريقية، وظهيرا أمينا للشعوب الساعية للاستقلال وكسب رهانات التنمية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!