الجزائر وفلسطين: جذور وجذرية خذلها العرب
أربع نقاط رئيسة تضمنتها المبادرة الجزائرية تجاه غزة: وقف العدوان، عقد اجتماع طارئ للجمعية العامة للأمم المتحدة، إغاثة غزة، العودة لمبادرة السلام العربية لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشريف. هل تدخل هذه المبادرة ضمن الرؤية الإستراتيجية للجزائر وما هي جذور ومكونات هذه الرؤية تاريخيا؟ وكيف انتقلت من الجذرية لتصل إلى ما هي عليه الآن؟ وهل خذلها العرب بحق بما في ذلك الفلسطينيون أنفسهم؟
السؤال الابتدائي الذي ينبغي أن ننطلق منه هو ما هي مكونات الرؤية الإستراتيجية للجزائر بشأن القضية الفلسطينية وكيف تجسدت في الواقع خلال الخمسين سنة الماضية؟
لقد تشكلت الرؤية الجزائرية المعاصرة تجاه القضية الفلسطينية عبر أربعة مراحل:
–المرحلة الأولى كانت قبل الاستقلال حيث كان الشعب الجزائري يؤمن بأن فلسطين هي أرض إسلامية بها بيت المقدس الذي ينبغي أن يزوروه في طريقهم إلى الحج، وساد اعتقاد أن هذه الزيارة هي مكملة للحج من دونها يعود الحاج بشعور غير مكتمل. ولذلك كان موقف الجزائريين حتى وهم تحت الاحتلال الفرنسي رافضا لإقامة الكيان الإسرائيلي بفلسطين، وترجموا ذلك بالتطوع في حرب سنة 1948 إلا أن الخذلان العربي والتواطؤ الدولي منعهم من الدفاع على أرض الإسراء والمعراج وعادوا خائبين من غير نصر مثلهم مثل بقية الشعوب العربية والإسلامية التي شاركت في الحرب آنذاك، ومنهم من استشهد على تلك الأرض الطاهرة في سبيل الله والوطن.
أي أن فلسطين كانت في المعتقد الجزائري في هذه الحقبة، فضلا عن كونها تحتضن أولى القبلتين، هي جزء من الوطن يحق لهم الامتلاك والسكن فيها (حي المغاربة والأوقاف والأملاك الجزائرية مازالت إلى الآن معروفة وإن صادرها الاحتلال) وينبغي تبعا لذلك الدفاع عنها والاستشهاد لأجلها، وهو ما حدث.
– المرحلة الثانية وامتدت من الاستقلال إلى حرب 1973 حيث كانت الجزائر التي خرجت للتو من ثورة تحريرية كبرى استعادت على إثرها الاستقلال، تؤمن أن الأسلوب الجزائري هو الأنجع في استعادة الأرض المغتصبة أي القيام بثورة حتى النصر أو الاستشهاد. وقد تُرجم ذلك بدعم عسكري واضح للفلسطينيين وبمشاركة فعلية في المجهود الثوري الفلسطيني من خلال التدريب والدعم بالسلاح وغيرها من الوسائل. كما تُرجم بمشاركة فعلية في حرب 1973 بقوات برية وجوية قامت بدور فعال في التأثير على تلك الحرب وضحت بالمئات من الشهداء، فضلا عن الدور الكبير الذي لعبه الرئيس الراحل هواري بومدين من خلال الدعم العسكري عن طريق الاتحاد السوفيتي سابقا، والدعم المالي والدبلوماسي للمجهود الحربي. إلا أن هذه المرحلة انتهت هي الأخرى بخذلان جديد عندما تحولت مصر السادات (القطب الرئيسي في دول المواجهة) إلى الاعتراف بالكيان الإسرائيلي بدل محاربته، والاستسلام للشروط الإسرائيلية بدل مواجهتها. وكانت قمة هذا الخذلان أن زار الرئيس المصري أنور السادات القدس المحتلة معترفا بالكيان الإسرائيلي وفاتحا الباب أمام اتفاقيات كامب دافيد التي فتحت الباب بدورها للكيان الإسرائيلي لفتح أول سفارة له في دولة عربية وإسلامية ومكّنته من فرض شروط على الدولة المصرية مازالت تُكبل سياستها الخارجية وكل الأمة العربية إلى اليوم.
وكان موقف الجزائر في هذه الفترة الأكثر دفاعا عن الحق الفلسطيني، والأكثر تمسكا بأن لا اعتراف ولا تفاوض ولا استسلام أمام العدو الإسرائيلي المغتصب للأرض والشعب والمعتدي على المقدسات والحرمات. وترجم هذا الموقف بتأسيس جبهة الصمود والتصدي التي ضمت الدول الرافضة للاستسلام المصري: سورية وليبيا والعراق واليمن والسودان ومنظمة التحرير الفلسطينية ثم تعززت بدول أخرى، وتمكنت هذه الجبهة من الوصول إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر وإلى نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس.
واستمرت هذه المرحلة إلى غاية سنة 1982 حيث تمكن الملوك العرب بالتدريج من تدجين الموقف العربي لصالح الاتجاه المصري. واغتنم هؤلاء فرصة غزو الكيان الإسرائيلي لجنوب لبنان وتمكنه من إجبار آلاف المقاتلين الفلسطينيين على الخروج من لبنان نحو دول عربية عدة من بينها سورية والجزائر، لطرح مبادرة السلام العربية في قمة فاس بالمملكة المغربية حيث تم ولأول مرة تأكيد مبدأ الاعتراف بالكيان الإسرائيلي مقابل قيام دولة فلسطينية على الأرض المحتلة إثر هزيمة 1967 . وكان ذلك انتصارا للملوك العرب على بقية القادة حيث كانت المبادرة سعودية والاحتضان مغربي والتزكية فلسطينية. وانحصر الموقف الجزائري الداعي للصمود والتصدي. وبدأت الكفة تميل لصالح الاعتراف باتفاقيات كامب دافيد والاعتراف بالكيان الإسرائيلي والقبول بالسياسة المصرية وإعادة الجامعة العربية إلى قيادتها وهو ما حدث.
– المرحلة الثالثة وامتدت من سنة 1982 إلى الاعتراف الفلسطيني بالكيان الإسرائيلي في أوسلو سنة 1993 . وبرغم أن هذه المرحلة شهدت إعلان قيام الدولة الفلسطينية في الجزائر سنة 1988، إلا أنها كانت بمثابة التحول الكبير في طبيعة التعامل مع القضية الفلسطينية حيث قدم ياسر عرفات بتوقيعه معاهد سلام مع الإسرائيليين الحجة لباقي العرب للاعتراف بالكيان الإسرائيلي وإقامة علاقات دبلوماسية معه وعزز بذلك الموقف المصري والاتجاه الذي كان يدعو إليه الملوك العرب في الوقت الذي لم يبق للدول الأخرى الرافضة للتطبيع أي حجة للاستمرار في موقفها مادام أصحاب القضية أصبحوا راضين بجزء من الأرض مقابل السلام أو اضطروا إلى ذلك. وبرغم ذلك بقي الموقف الجزائري رافضا لمسايرة هذا الخط رغم عدم الاعتراض عليه. وبقي متمسكا بالحد الأدنى المتفق عليه على إثر الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية في الجزائر. ولم يتبدل هذا الموقف حتى أثناء العشرية السوداء التي عصفت ببلادنا في تسعينيات القرن الماضي حيث كانت الدولة في أضعف أحوالها.
– المرحلة الرابعة وامتدت من سنة 1999 إلى اليوم حيث أصبح فيها الموقف الجزائري محكوما بالتطورات التي نتجت عن مواقف منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها والحقائق التي فرضتها الانتفاضات المتتالية للشعب الفلسطيني والمقاومة، خاصة في قطاع غزة. وبالرغم من ذلك فإن الجزائر لم تبادر إلى فتح علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع الكيان الإسرائيلي كما فعل الكثير من العرب وبقيت متمسكة بالمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في حدودها الدنيا والتي أعادت تلخيصها المبادرة الأخيرة في ما ذُكر من نقاط.
ما الذي نستطيع أن نقوله بعد كل هذا سوى أن الجزائريين لم يكونوا في يوم من الأيام أقل حماسة أو حبا لفلسطين من الفلسطينيين، عكس ذلك فإنهم لم يسارعوا إلى الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وأظن أنهم لن يسارعوا حتى وإن اعترفت به السلطة الفلسطينية باعتبار أن رؤيتهم في هذا المجال تستند إلى قواعد الحق والعدل والإنصاف وتأبى التحول تحت ضغط الحاجة ناهيك عن الإذعان للقوة كما فعلت مصر والأردن والفلسطينيون أنفسهم وبقية الدول العربية السائرة في فلكهم.
ولعل هذا الموقف الجزائري المتميز والفريد من نوعه والذي يقدره الفلسطينيون بلا شك هو نتاج تلك المعاناة التاريخية التي عاشها الجزائريون من استعمار استيطاني فرنسي شبيه بالاستيطان الإسرائيلي في فلسطين وتمكنوا في الأخير من دحره والتغلب عليه ولو بعد أكثر من قرن وربع قرن من الاحتلال. وما ذلك ببعيد عن الفلسطينيين الذين هم اليوم في منتصف الطريق الذي سار على دربه قبلهم الجزائريون يقومون بثورة شعبية في غزة مثل التي قام بها أحفاد زعماء الثورات الشعبية الجزائرية في القرنين التاسع عشر والعشرين.